د.عبدالله مناع
مع انتهاء أيام الحرمان من عالمي الأثير لديَّ: (القراءة والكتابة والمشاهدة).. كنت أندفع بـ(صبري النافد).. نحو عالمي الأول «القراءة».. خاصة وقد تجمَّع لديَّ عدد من كتب الأصدقاء والزملاء الأعزاء التي كانت بصحبتهم عندما أكرموني بزياراتهم لتقديمها لي «هدية» منهم.. وفقاً لـ(التقاليد) المتعارف عليها بين الأدباء والكتاب بعضهم بعضًا.. كان في مقدمتها آخر مجموعة قصصية صدرت لرائد القصة القصيرة الأستاذ «محمد علوان».. بعنوان (إحداهن)، وكان تاليها آخر ثلاثة كتب نقدية للناقد الأدبي المرموق الأستاذ حسين محمد بافقيه.. هي: «عطر النقد»، و«كلكم يطلب صيد»، و«أفئدة من الناس».. الذي عرّف نفسه في عنوانه.. بأنه «فصول من أدب الحج وثقافته»، وكان آخرهم كتاب «نبض الأنامل» للكاتب الصحفي الشاب الدكتور سعد سعيد الرفاعي، الذي تفضل قبل زيارته بإهداء نصه المطبوع لشخصي، ولصاحب عمود (جداول) الكاتب والصحفي الأستاذ حمد القاضي.. رئيس تحرير (المجلة العربية) سابقاً، وصاحب القلم الذي يقطر وداً وتسامحاً ونبلاً.
ولكن.. ولأن هذه الكتب الخمس تحتاج إلى قراءة متأنية.. قد يتبعها تعقيب أو تعليق على بعضها أو عليها جميعاً، ولأن أحَرَّ شهور فصل الصيف - عندي - وهو شهر «أغسطس» المقابل في الفصول العربية لشهر (الأسد).! الذي يقول عنه مثلنا العامي بأنه (يلصّق التوب في الجسد!) قد أخذ يداهمنا.. فقد آثرت تأجيل قراءتها، والهروب إلى «جنيف» وصولاً و«ديفون» إقامة.. لأجد نفسي بعد أيام - برفقة زوجتي على أحد مقاعد درجة «الضيافة» بـ(الخطوط السعودية).. وهي تحملني إلى «جنيف».. ومنها إلى «عشتي» الصغيرة في «ديفون»!؟
* * *
وكعادتي في صيف كل عام.. كنت في العاشرة صباحاً من ثالث أيام وصولي إلى «ديفون».. أجوب أحياء المدينة وشوارعها وميادينها لأحيِّ أرصفتها وأعمدتها، أشجارها وأحواض زهورها التي ما تزال تحتفظ بنضارتها الربيعية.. قبل أن يستقر بي مقامي في (مركاز السعوديين) بـ(مقهاها) الأشهر والأكبر والأجمل موقعاً بإطلالته على أكبر ميادين المدينة ونافورتها الأكبر والأجمل.. مقهى (شارلي شابلن)، الذي لا ينافسه في حجمه وموقعه وأعداد زبائنه إلا مقهى (الفصول الأربعة) - أو الكاتر سيزون - كما يقول الفرنسيون في أيام الآحاد من كل أسبوع.. عندما يتحول شارعه الذي يحمل: اسم أحد أعلام الأدب والثقافة الفرنسية «فولتير».. إلى (سوق)، يسميه أهل ديفون بـ(سوق الأحد)!! وهو سوق شامل يحتوي على كل شيء مما يحتاجه أبناء المدينة والمقيمون بها، وقصادوها من المدن الفرنسية الصغيرة المجاورة كـ(فرنيه) و(ديجون) وغيرهما.. ففيه اللحوم والأجبان والخضراوات والفواكه والملابس والأحذية والحلويات.. بل و»التحف» و»الأنتيك»!!.. لكن أهم ما يميز (سوق الأحد) هي أسعاره المخفضة عن محلات البيع التقليدية والبقالات.. لأن العارضين فيه الذين يأتون إليه من الريف الفرنسي لا يتحملون نفقات إيجار أو كهرباء أو هاتف، ولكنهم يأتون إليه بـ(طاولاتهم) ومظلاتهم وخيامهم بل و(ثلاجاتهم) التي تغذيها بطاريات جافة محمولة، فإذا قاربت الساعة الثانية ظهراً.. قام العارضون بجمع بضائعهم وإزالة مظلاتهم وخيامهم وطاولاتهم.. ليعود شارع «فولتير» إلى صورته التي كان عليها قبل ساعات (سوق الأحد) الست..؟
لكم تمنيت أن أعثر أثناء تجوالي.. على «كفيف ديفون»، الذي يسير وحيداً وهو يعتمد على عصاه.. لأحييه كما أفعل كل صيف، ولكنني لم أعثر عليه.. وهو ما أقلقني على حياته.. مخافة أن يكون قد تعرض لحادث مروري أو أنه مريض أو أنه مات كما يموت الناس، لكن الذي خفف عني بعض وساوسي.. عثوري على عازف «الجيتار» الأيرلندي السبعيني (المستر ديكس).. فقد رأيته يحتل مقعده في الواجهة الشمالية من المقهى، ليقبل عليَّ وأحييه بحرارة.. ليستقبلني بحفاوة استقباله لأحد أعز أصدقائه! لأساله عن صحته وجيتاره وحفلاته الغنائية إن كان ما يزال يقيمها في أندية (الجولف) بالمنطقة؟ فأجابني وهو يطلق ضحكة سعيدة - غير آبهة - بأن كل شيء على ما يرام!! وكأنه (ابن الأربعين)، وليس (السبعين عاماً).. قبل عشر سنوات!! ورحم الله شاعرنا القومي الكبير الأستاذ كامل الشناوي، الذي قال في كتابة (ساعات): (العمر.. هو الشيء الوحيد.. الذي كلما زاد نقص)..!!
* * *
على أي حال.. قبل أن التقى (المستر ديكس) مصادفة، وتأخذني أخباره وقفشاته.. كنت أتأمل (بانوراما) مقهى «شارلي شابلن».. لأرى (زبائنه) الذين أعرف بعضهم على ترتيبهم السابق، والقديم.. فعلى الجانب الأيمن من الواجهة العريضة.. تشغله موائد الفرنسيين وزوجاتهم وكلابهم أحياناً.. وأمامه (مركاز السعوديين) وعمدتهم الصديق العزيز الدكتور عبد الله دحلان.. بـ(أقدميته) و(كريم خلقه) منذ أن تم انتخابه عضواً بـ(منظمة العمل العربية) فـ(الدولية) ممثلاً لرجال الأعمال فيها.. منذ أكثر من عشرين عاماً - فاختار «ديفون» سكنًا له.. فشد إليها الكثيرين من أصدقائه ليقيموا ويتملكوا فيها.. مما حمل رئيس بلدية ديفون - الـ(ميور)- على إطلاق اسمه على الشارع الذي يسكنه.؟ تقديراً له وعرفاناً بفضله على المدينة، أما على الجانب الأيسر من واجهة المقهى.. فقد كان وما يزال يشغله (الفرنكفونيون) من أصول مغربية وجزائرية وتونسية ممن هاجروا إلى فرنسا في أزمان سابقة، فأكرمتهم - أو عوضتهم - بمنحهم وأبنائهم الجنسية الفرنسية ليعاملوا معاملة الفرنسيين فيها.. و«عمدتهم» المغربي الخلوق والخدوم (سي بلحاج)، الذي رغم ارتباطه وظيفيًا بأحد رجال الأعمال السعوديين لمتابعة أعماله في فرنسا وسويسرا.. إلا أنه لا يتوانى عن خدمة من يقصده من «العرب» في «ديفون» سواء أكانوا سعوديين أو كويتيين أو من غيرهما، وقد حظيت منه بخدمات إنقاذية لم أنسها له!!، لينتصب أمام موائد (الفرانكفونيين) أكبر (مراكيز) المقهى وأطولها وأكثرها حضوراً وازدحاماً برواده: مركاز الأشقاء الكويتيين و(عمدتهم) رجل الأعمال الشيخ عبد الله الغانم صاحب الجوائز الثقافية العربية المعروف، الذي وإن كان لا يتردد على المقهى كل يوم.. إلا أنه يعوض غيابه بـ(ديوانيته) التي يعقدها مساء بمنزله العامر في كل يوم من أيام الصيف.. ويحضرها معظم الكويتيين إن لم يكن جميعهم!
وهكذا.. من هذا «الكرنفال الإنساني» الجميل والمتنوع الأجناس والأعراق يتشكل مجتمع «ديفون» صيفاً.. الذي يقدم مقهى (شارلي شابلن) ملخصاً لصورته...!
فـ«ديفون» وإن تميزت بقربها من المدن السويسرية الكبرى - جنيف ولوزان ومونترو - وبرخائها النسبي عنها.. إلا أن تميزها الأكبر كان وما يزال في اعتدال مناخها صيفاً، فهي لا تعرف درجات الحرارة المرتفعة إلا في بعض من أيام شهري يونية ويولية.. وإلى الأيام الأولى من شهر أغسطس.. أما بقية أيامه فهي غيوم وأمطار تسحر أبناء الجزيرة والخليج، وتجعلهم يتسابقون إليها.. وكل عام.. وكل صيف والجميع بخير.