د.عبدالله بن موسى الطاير
تصريح آخر خطير للرئيس الأمريكي يتذمّر من ضياع بضعة تريليونات أنفقتها أمريكا على وجودها في الشرق الأوسط، مغفلاً عشرات التريليونات التي أدخلتها منطقتنا للخزينة الأمريكية. الرئيس لا يعرف أهمية الشرق لمصالح أمريكا من تأمين مصادر الطاقة وممراتها، وهزيمة الاتحاد السوفيتي وفكره الشيوعي الذي كان مهدداً وحيداً للرأسمالية الغربية. فهل بعد أن استغنت أمريكا عن نفط المنطقة، وأصبحت قطباً أوحدَ يكون الشرق الأوسط مستنقعاً تنأى بنفسها عنه؟
التصريحات التي صدرت لاحقاً عن الخارجية الأمريكية ووزارتي الخزانة والدفاع تخالف تصريحات ترامب. فهل تعلّمت المؤسسات الأمريكية من فشلها الذريع في منع ثورة الملالي في إيران، في حين لا يهتم الرئيس بقصص الماضي الذي صنع العظمة الأمريكية.
توطدت العلاقات الأمريكية الإيرانية خلال 1960- 1979م. تضاعف سعر النفط أربع مرات واشترت إيران أسلحة بنحو 16 مليار دولار، وبلغ التبادل التجاري حوالي 3 مليارات دولار سنوياّ. وبين عامي 1973 و1978، ارتفعت المكالمات الهاتفية بين البلدين بنسبة 1600 %. وكان نحو 60 ألف إيراني يعيشون ويدرسون في أمريكا، و50 ألف أمريكي يعملون في إيران، التي فتحت أرضها لأكثر من 50 جامعة أمريكية. غدت مدن طهران وأصفهان وشيراز وجهات سياحية للأمريكيين، وكتبت نيويورك تايمز عام 1965م: «هذه أرض ساحرة تتجاور فيها الحداثة، بفضل حاكم شاب مستنير، وثروة هائلة من النفط، مع واحدة من أقدم الحضارات التاريخية». الشاه الفخور بعلاقاته مع أمريكا توقَّع أن اقتصاد بلاده سيبز اقتصاد ألمانيا وفرنسا بحلول نهاية القرن العشرين، كان طموحه يفوق إمكانات بلاده.
على الرغم مما عانته إيران من ارتفاع التضخم والفساد وعدم المساواة في الدخل، والتوسع الحضري السريع وعدم كفاية الخدمات العامة، والاختناقات الهيكلية، وتدفق الأجانب وما ارتبط بذلك من احتكاكات ثقافية، فقد واصلت طهران التفاني في احتواء تقلبات أسواق الطاقة على حساب شعبها، وهو ما فاقم المشكلات الداخلية. أمريكا في المقابل دعمت الشاه، لدرجة أنه قبل رحيله بعام واحد وصف الرئيس كارتر إيران بأنها «جزيرة الاستقرار في زاوية مضطربة من العالم».
وبعد سقوط الشاه، هاجم الإيرانيون كل ماله علاقة بأمريكا، وعلق دبلوماسي أمريكي وهو يستعد لمغادرة إيران: «لقد اعتدنا أن ندير هذا البلد ... الآن نحن لا ندير سفارتنا». وتلاومت الأجهزة الأمريكية وتبادلت التهم حول الفشل الذريع الذي أودى بأقوى حليف لأمريكا في الشرق الأوسط، وتفشت نظريات المؤامرة، واشتبه البعض في أنها خطة بريطانية، ولم تتزحزح قناعة الشاه في أن انتزاعه السيطرة على قطاع النفط الإيراني بعيدًا عن شركات النفط الدولية قد عجلت بالانقلاب عليه.
آخر سفير أمريكي في إيران برر فشل المؤسسات الأمريكية بأنها لم تفكر «في ما لا يمكن تصوّره»، فاحتمال الإطاحة بالشاه لم يكن متخيلاً، أما كارتر فقد سرّى عن نفسه بالقول: «لم تكن إيران ملكاً لنا في المقام الأول لنخسرها. نحن لا نملك إيران، ولم يكن لدينا أي نية أو قدرة على السيطرة على الشؤون الداخلية لإيران». لكن الباحثين في هذا الفشل أشبعوه بحثاً ودراسةً واليوم تستعاد مسيرته، حيث «كرّست تلك الثورة الثيوقراطية الإسلامية الأولى والوحيدة في العالم، والعنف الذي اندلع في أعقابها وضع إيران مركزاً لموجة من النشاط الديني المناهض لأمريكا انتشر في نهاية المطاف عبر المنطقة وفي أماكن أخرى» من العالم، وذلك بحسب الباحثة في معهد بروكنز Maloney Suzanne التي كتبت مقالة وافية عن العلاقات الإيرانية الأمريكية قبل الثورة وأفدت منها في هذه المقالة. أما كريستوفر هيتشنز فإن الثورة الخمينية نقلت أمريكا والعالم من «عصر الخطر الأحمر إلى عصر الحرب المقدسة». لا أظن أن الرئيس الأمريكي قد اشغل نفسه بالبحث والاطلاع على هذا الملف الذي غيَّر منطقتنا وحولها إلى مستنقع، بيد أنني متيقن أن المؤسسات الأمريكية تدرك حجم فشلها، وأنها تسعى جاهدة إلى عدم تكراره. المصالح متغيّرة، والقيم والمبادئ ليست للبيع، والشراكات والحلافات بين الدول ليست أسهما في بورصة نيويورك. وإذا تحولت هكذا علاقات إلى مزادات لمن يدفع أكثر، فلا شك أن روسيا والصين ستقدّم خدمات أفضل وأرخص ويمكن الاعتماد عليها.