د.فوزية أبو خالد
لهذا التاريخ ألم حارق لا يُنسى في حياتي، وفيه شدة لم تلينها الأيام ولا السنوات، ولا انطواء أربعة عقود بيننا وبينه؛ ففي ذلك اليوم الموجع ودعت طفولتي إلى للأبد، وودعت فيه الدعة والوداعة والدلال إلى غير رجعة.. ففي ذلك التاريخ البعيد القريب تحولت فجأة بين ليلة وضحاها من شابة مرهفة وفتاة غرة، لا تلوي على شيء، ولا تعرف طعم المرارة إلا من تجارب القراءة، إلى امرأة شرسة ومسؤولة. إنه يوم رحيل مَن لم يكن يناديني إلا (يُمّه ويالغالية والحور والصغيرة عزيزة وزبيدة والزهراء).. رحم الله عبدالله بن محمد أبوخالد وجعله خالدًا في الجنة؛ فقد كان يغدق علي حنانًا وأسماء يصطفيها من ذاكرته الشخصية، ومن الذاكرة الجمعية، ويتوجني بها مليكة للكلمات التي يعشق الطيران على أثيرها رغم صمته العميق.
* * *
يالله، وجع ذلك الرحيل وآلامه المبرحة ما فتئت تحفر عظامي، ولم يزل جرحه حارًّا يتدفق من صمامات قلبي، ومن مسامي، ومن بين سطور أوراقي، وكأنني أمس ارتميت بين ذراعيه، وقبّلت جبين بابا ورأسه الشامخ، وغمرت روحي برائحة دهن العود الفائح من «غترته»، وتركته يقبلني ما بين عينيّ كعادته إلا أنني ما كدت ألتفت إلا وقد ابتعدوا به عني وأنا أعدو خلفهم بكل ما أوتيت من قوة الرعب حافية باكية لولا أن سمعت صوته على حين غرة من هيبة الموقف يناديني بأسلوبه نفسه في تنغيم اسمي «فوووزياااا عودي و(إحتريني) ومتى مابغيت بجانبك تجديني».. ولم يخلف وعده قط.
* * *
كان بابا عبدالله أبوخالد - جلله الرحمن بعزه، وأكرم مثواه بجواره العظيم - إنسانًا يتسم بشيم من أعظم مكارم الأخلاق، وفي مقدمتها الجود والتسامح والعفاف و(السهالة) (التيسير). لا أدري كيف كان ببساطته البالغة يبسط أعقد المواقف، بل أنني لم أصادفه ولو مرة واحدة في حياته يرى في أي أمر أمرًا «كايدًا» أو «متعذرًا» أو يستحق «العنت» أو حتى «العناء»، فضلاً عن حرقة الأعصاب. كان يرى أن «ما لا يصير اليوم يصير باكر» وأن «الدنيا ما هي بطايرة» وأن «الذي ما كتبه الله لا يستحق التحسر عليه». لم يكن متطرفًا يمينًا ولا يسارًا إلا أنه لم يكن وسطيًّا؛ فقد كان بعيدًا عن كل أشكال التخندق. كان كنهر رائق، يسير في مسلكه اليومي غير مكترث بالتكتلات على جانبيه أو من حوله، ولا يشغله التزاحم على رزق أو ملذات أو مناصب أو مكانات. لم أره في حياتي يتسلق سلمًا أو درجًا، ولم أره كلفًا ولا حتى مهتمًّا باعتلاء منصة، أو حريصًا على التقرب من ذي شأن أيًّا كان.
كان من النوع البشري المشغول بنفسه بالمعنى النرجسي للكلمة.
كان حافظًا للقرآن، وقد كان أول معلم علمني تجويد القرآن، وتمييز حلاوة التلاوات وتنوعها، ولم تكن تفوته تلاوة ما بعد صلاة الفجر ولو ببضع آيات، كما كان لا يفرط في «قدوع المشراق والقهوة العربي بالهيل والكثير من الزعفران مع حبة مسمار».
ومع ذلك كان يسمع عبدالله فضالا وفريد الأطرش وحضيري أبو عزيز وسميرة توفيق وعبدالوهاب إلا أنه لم يكن من متابعي أم كلثوم، وربما كان ذلك غريبًا في جيله.
* * *
كان رجلاً عصاميًّا منذ طفولته ليوم وداعه. ورغم أنه في شبابه كان من الشباب الذي دأب أهل نجد في حينه على تلقيبهم «الزقرت أو زرقرتية» نظرًا - على ما أعتقد - لأناقة ملابسهم، وشدة نظافتهم، ولباقتهم، وسمتهم؛ فهم (ليسوا بالصوتيين ولا الجوهريين)، إلى جانب منطقهم العقلاني، وطيب أحاديثهم، وانفتاحهم على الآخر، ومنها حبهم السفر، وربما قراءة الكتب وسماع الأغاني.. إلا أن والدي عمل بيده للقمة نظيفة طوال حياته. وبما أنه تيتم في التاسعة فقد تقلب من نعومة ذلك العمر في أعمال عدة لقوته ولقوت والدته وإخوانه الصغار، ثم فيما بعد بقوت سرب أطفاله.. عمل في (حيالة الأسرة) (نخل الأسرة)، وعمل في رعاية الإبل.. وكنت أسأله عن آثار غائرة، أراها في باطن قدميه، فيقول إنها آثار صعود وهبوط كريب النخل، ويبتسم، ويردف «ما لبسنا (حذيان) إلا وأنا في الخامسة عشرة أو زود». كنت أسأله أيضًا عن نحو خمس حلاقات متتالية، تبدو كآثار كي قديم على ظاهر ساعده الأيمن، فيخبرني بأنه تقليد قديم لشد الساعد بوضع دوائر بفوهة البندق مغموسة وهي حارة برماد، ويبدو أنها إمارة شجاعة، وإن كان من التواضع أنه لم يتباهَ بذلك قط، ولا على سبيل الرواية..
وعمل بمهنة اشتُهر بها آل هران من عائلته، وهي مهنة (غبن البشوت). عمل أيضًا كداد لوري بين طريق الحجاز ومكة والكويت. وما لبث أن امتلك دكان عطارة توابل بالمقيبرة، ودائمًا رائحة الورد المجفف تذكِّرني برائحته إلى أن انتهى به المطاف إلى العمل العقاري؛ إذ عمل في بداية مستقرنا بجدة في مكتب عقار شراكة مع نفر من أهل نجد القاطنين جدة، منهم عبدالله بن مهاوش والعماري والدليهان - رحمة الله عليهم جميعًا - إلى أن استقل بمكتب خاص.
* * *
كان يحب من الأكل الكبسة، ثم الكبسة، ثم الكبسة، خاصة لو كانت على «قفر» و»فقع». كان يرتاد من المصائف الطائف وعالية بجبل لبنان. أما تاريخه مع النساء فقد كان متيمًا بسارة ونور وطرفة وموضي أمه وأمي وعماتي، ومع ذلك كان يعشق خمس بنات.. ولا يقبل تكديرهن ولو بكلمة، بينما لا يخلو من شدة، يربي بها ستة شباب.. وكان يطرب طربًا لكتابتي خاصة لو سمع لي مقالاً يقرؤه بدر كريم في الإذاعة.
* * *
لم يقل لي يومًا في حياتي أفّ، ولم يقلها لأي كان.. كان حييًا، والحياء قليل إلا فيمن وُلد رجلاً إنسانًا. كان عبدالله أبو خالد حنونًا، حالمًا، مسالمًا، يجنح للسلم وإن جنحوا لحرب، لدرجة كانت وأنا في طيش الشباب تغيظني، إلا أنني اليوم أجاهد النفس لأتشبه بحلمه. كان يكره ثلاثة أشياء كرهًا جمًّا كره العمى وأكثر، وقد علمني كرهها، هي (الذل والدَّيْن والنفاق). كما علمني حب تراب المملكة، وحب الأنفة والحرية، وعلمني قيادة السيارة وأنا في السادسة عشرة من العمر.
* * *
كان أهل جدة يسمونه الرجل الشرقي، وكان الملك سلمان وأهل نجد يسمونه راعي جدة، وكان لا يعرف من نجد إلا ملهم وحريملاء والرياض، وقد سمى مكتبه العقاري بالشرفية بجدة مكتب (دخنة) تمسكًا بتراب الهضبة، كما كان لا يعرف من جدة إلا طريق مكة وطريق المدينة وطريق المطار؛ فعبدالله أبو خالد رجل عشاق للترحال وللطرقات ولحيالات النخل وواحات الماء ولوصل الأهل والأقرباء والأصحاب.. بل إن من حكمته ترديد قول «الجار ولو جار». وكان يتسامح مع مجتمعه في كل شيء بحكم طبيعته المسالمة إلا في تعليمي؛ فقد قامر برضا المجتمع، وأخذني للدراسة في بيروت وأمريكا وأنا صغيرة يافعة.
* * *
رحم الله والدي الذي انتقل إلى جوار الرفيق الأعلى في الخمسينيات من العمر، ولم يكن في رأسه شعرة شيب، لم يفقد سنًّا ولا ضرسًا، ولم يشتكِ مرضًا.. بل إنه لم يزر طبيبًا منذ فتحتُ عيني على قامته السارية وملامحه السيفية ولونه التمري.. كان قليل الأكل، قليل الكلام، شديد الأناقة، شديد القناعة، غزير الحب، كثير التأمل.
* * *
أحضر مشاري وعبد الرحمن من رياض الأطفال، تناول الغداء، أخذ قيلولة قصيرة، استحم، وتهفهف كالعادة، صلى العصر، قاد سيارته الجيب التي كانت رمزًا من رموز تعلقه الولهي بالصحراء، وحرصه على المقناص، إلى مكتبه بحي الشرفية، وهناك في محفل العمل رفع رايته البيضاء، وعادت تلك الروح الطيفية الغالية إلى رحاب الرحمن بإذن الله.
* * *
المصادفة الربانية المدهشة أن يُرزق أخي عبدالرحمن وزوجته عائشة بابنهما البكر مشاري في يوم رحيل الوالد نفسه [8/ أكتوبر / الألفية الثالثة].. فسبحان من جعل من الحياة امتدادًا للحياة.