خالد بن عبدالكريم الجاسر
في فترة وجيزة، نجحت المملكة وروسيا في إقامة تحالف وتعاون قوي ومُميز على مُختلف الصُعد، غير محصورة بمجرد شراء أسلحة، أو ضخ استثمارات في روسيا، لكن بات الأمر أوسع بكثير بخلق شبكة من المصالح لا يجوز التحلل منها، غير مُرتبطة بتطورات إقليمية أو دولية ما.. ارتسم طريقها مُنذ اعتراف روسيا كأوَّلَ بلدٍ باستقلال الدولة السعودية عام 1926، مُتخطياً تاريخاً من الازدهار والتدهور والصراع الحادَّ والدفء البالغ، كحال أي حليفين يعتريهما خلاف، وتغيّر مستمر لدور كلا البلدين ومكانتهما في العالم عمومًا، وفي الشرق الأوسط تحديدًا. مُرتهناً ذلك التاريخ على حال العلاقة بين المملكة وحليفتها الجيوسياسية الأمريكية التي تأثرت بعد هجمات 11 سبتمبر، لتبلغ ذروة تطلُّعات البلدين إلى التقارب القادم مع تولِّي الملك سلمان السُلطة، وولي عهده الذي حقَّق مسيرةً مهنية سريعة بالقواعد الجديدة، وتنويع السياسة والعلاقات الاقتصادية الخارجية، والتي بدأت تدريجيًّا إلى تعاونٍ أكثر براغماتية، بل وأقل التفاتًا للمواجهة الأيديولوجية... عمقتها زيارة الملك سلمان إلى موسكو -التي كانت روسيا تنتظرها منذ وقتٍ طويل- منذ أن دعا بوتين الملك سلمان حينما كان أميراً للرياض منتصف 2015م باتصالٍ هاتفيّ، وتأجلت الزيارة ثلاث مرات، بل وبعدما خطفت مصافحة بوتين للأمير محمد بن سلمان في قمة الـ20 في هامبورغ الأضواء الإعلامية.
ولا يعني أن الحضور الروسي في الخليج العربي بديل للشراكات معها، وإنما تنويع تلك الشراكات هو أمر تفرضه مُتطلبات المرحلة الراهنة التي تُملي إعادة تعريف المصالح الإستراتيجية.. بعدة محطات تاريخية، نتيجته ما نشهدهُ حاليًا من وجود توافقات عدة بين البلدين على مبادئ رئيسية، مثل عدم التدخل في الشؤون الداخلية، وتشابه مواقف البلدين في الأمم المتحدة، وكذلك على المستوى الاقتصادي، انطلاقًا من مسؤولية عالمية تُمليها عضوية البلدين في G20. ليتطور مسار العلاقات، لآفاق جديدة نوعية بعد زيارات الأمير محمد بن سلمان، إلى روسيا 2015م، وتوقيعه اتفاقيات ومذكرات، أبرزها 6 اتفاقيات ومذكرات تعاون في مجالات الطاقة والفضاء والإسكان وإنشاء صندوق استثمار في مجال الطاقة بمبلغ مليار دولار، وكذلك في مجال التقنية الحديثة بمليار دولار، إضافة إلى اتفاقية استثمارٍ مشتركة بقيمة 100 مليون دولار في مشروعات البنية التحتية، وغيرها من الاتفاقيات العسكرية، فضلاً عن إعلان المملكة بناء 16 مفاعلاً نوويًا وإعطاء روسيا الدور الأكبر في تشغيل تلك المفاعلات، ومن المتوقع أن يصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 7,5 مليارات دولار عام 2020. بعدما كان التبادل بين البلدين يتأرجح حول 500 مليون دولار تقريبًا، مقابل 70 مليار دولار 2018 قيمة التجارة والتعاون الاقتصادي بين السعودية وأميركا. بل وأكدت المملكة علاقاتها بدعمها الفكرة الروسية بزيادة إنتاج النفط من جانب دول أوبك + بمقدار 1.5 مليون برميل يوميًّا، وجعلها اتفاقيةً دائمةً بعد تخطيط لها دام 40 عامًا، وتطوير مشروع «Arctic LNG-2، بطاقةٍ إنتاجية تبلغ 19 مليون طن من الغاز الطبيعي المسال سنويًّا، بـ20 مليار دولار أمريكي للمشروع.
وسياسياً، شكَّل حياد روسيا في أزمة الخليج عنصرًا مهمًّا في العلاقات، فصحيحٌ أنَّ موقف البلدين بشأن سوريا متعارضٌ تمامًا، لكن جاءت الأولوية للمملكة إلى حلِّ الوضع الإشكالي مع جارتيها العربيتين: اليمن وقطر. ثم اتجهت للبحث عن فرصٍ لتقليص الوجود الإيراني بالمنطقة بعدَّة طرق، منها عدم بيع السلاح لإيران وإثارة انقسام في العلاقة بين طهران وموسكو. لكن الصمت الروسي من واقعتي صيف 2018، والاستيلاء على مدينة الحُديدة، وإعلان تقرير فريق من خبراء الأمم المتحدة مسؤولية دول التحالف، ضمن بلدانٍ أخرى، عن انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان، كل ذلك فتح الباب لتتحسن العلاقات، بعد هجمات 11 سبتمبر وحرب العراق 2003 ومعارضة روسيا لذلك، في محاولة لتقارب البلدين.
يَدلُّ كلُّ ذلك على وجود حدودٍ حقيقيّة للتعاون، أشاد بها بوتين، خلال حديثه مع ثلاث قنوات «العربية» و»سكاي نيوز» و»روسيا اليوم»، والصداقة القوية بل وعلاقته الطيبة بالملك، وولي العهد شخصياً، مُمتناً لهما بالمواقف الدولية البنّاءة، آملاً السعي لحل كافة التناقضات.
ولم تُغفل السعودية أكثر من 20 مليون مسلم روسي هم 14 % من إجمالي سكان روسيا، برعاية ما بين 16- 20 ألف حاج روسي، إضافة إلى آلاف المعتمرين على مدار العام.
وقفة: إن رؤية السعودية عام 2030 تحمل في طياتها بصيص أمل في الاتجاه إلى بناء مشروع دولة إقليمية، مستدامة، في حين أن رؤية الرئيس بوتين لروسيا هو الانفتاح على كل جوانب التعاون، بما يعود بفائدة لتعظيم الانفتاح على بعضهما البعض الآخر.