د. محمد بن يحيى الفال
ما أشبه الليلة بالبارحة ونراها مُتجلية في احتدام الصراع بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وبين الأعضاء الديموقراطيين في مجلس النواب الأمريكي على خلفية محادثاته مع رئيس جمهورية أوكرانيا فلاديمير زيلينسكي، وادعاء الديموقراطيين بأن الرئيس وفي خطوة غير مسبوقة حرض الرئيس الأوكراني على المضي قُدماً في إجراء تحقيقات حول تورط في قضايا فساد قام بها في أوكرانيا نجل جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، والمرشح الديموقراطي الأكثر حظاً لمنافسة الرئيس ترامب الساعي لولاية ثانية في الانتخابات الأمريكية المقررة في الثالث من نوفمبر 2020، أي بعد ما يقارب السنة ونيف. يطالب النواب الديموقراطيين من الرئيس تقديم تسجيلات مكالماته كافة مع الرئيس الأوكراني للاستماع إليها لمعرفة مدي صحة التسريبات التي حصل عليها الديموقراطيين، والتي تؤكد أن الرئيس حرض رئيس دولة أجنبية ضد مواطن أمريكي من أجل مصلحته الشخصية للتأثير على سير الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة في مخالفة دستورية صريحة للدستور الأمريكي. طلب الديموقراطيين للحصول على تسجيلات المحادثات بين الرئيس ترامب والرئيس الأوكراني هدفها في حال ثبوتها هو عزل الرئيس من منصبه «Impeachment» لإخلاله بمهام منصبه كحامي لكل مواطنيه بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية أو أصولهم العرقية. هذا هو الوضع الحالي في الساحة الأمريكية والذي يشمل تراشقًا إعلاميًا وسياسيًا وشعبيًا لم تشهده الولايات المتحدة الأمريكية في تاريخيها الحديث إلا من خلال قضية مُشابه لما يحدث على الساحة الأمريكية حاليًا وهي القضية التي حدثت في السبعينيات من القرن المنصرم والمعروفة بقضية ووترغيت.
التاريخ يُعيد نفسه نراه وكأننا نعيش حالة من تداعي المعاني «Deja vu»، فالوضع الحالي في أمريكا يشبه إلى حد كبير ما جرى في قضية ووترغيت، وعلى أقل تقدير سلسة الأحداث، فقضية ووترغيت كانت هي الأخرى تتعلق بماهية الأدلة التي طلب الكونغرس الأمريكي الاستماع لها وهي أشرطة تسجيلات كان الرئيس ريتشارد نيكسون الرئيس الأمريكي السابع والثلاثون قد أمر بتسجيلها بطريقة سرية لما يجري من نقاشات في مقر الحزب الديموقراطي ببناية ووترغيت الشهيرة والتي اشتهرت القضية باسمها وأضحت من أشهر القضايا السياسة الأمريكية في العصر الحديث، (وبالمناسبة فإن بناية ووترغيت الشهيرة هي البناية التجارية السكنية التي تقع مباشرة وعلى بعد عدة أمتار شمال سفارة المملكة في واشنطن، ويعتبر مبنى السفارة أحد معالم العاصمة الأمريكية لموقعه المتميز المجاور لأحد أهم معالم العاصمة الأمريكية والمتمثلة إضافة لبناية ووترغيت لكل من مركز كنيدي الثقافي الذي يعد أيقونة المعالم الثقافية بواشنطن وجامعة جورج واشنطن إحدى أشهر الجامعات الأمريكية). كان هدف الرئيس نيكسون وقتها من التجسس على مقر الحزب الديموقراطي هو معرفة استراتيجيته وخطط الحزب المنافس له من أجل تجاوزها ليتمكن من الفوز بولاية ثانية للانتخابات الرئاسية للعام 1972 وبكونه بالكاد فاز على منافسه الديموقراطي هفمري في انتخابات 1968 والتي جاءت به لكرسي الرئاسة. كُشف أمر التجسس على الحزب الديموقراطي من قبل صحفيين أمريكيين يعملان في صحيفة الواشنطن بوست وأنكر الرئيس نيكسون في البداية ورفض تسليم الأشرطة للكونغرس ولكن المحكمة العليا الأمريكية أرغمته على تسليمها وليقدم استقالته من منصبه كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية في الثامن من شهر أغسطس 1974 بعد أن اتضح له أن عزله سيتم لا محالة وليخلفه الرئيس جيرالد فورد والذي أتم عهدة الولاية الثانية للرئيس نيكسون المستقيل.
إجراء عزل الرئيس ترامب من منصبه لن يكون بالأمر السهل وذلك لسبيبين يتعلقان بماهية إجراءات العزل وتعقيداتها القانونية وبسبب آخر يتعلق بشخصية الرئيس نفسه، بخصوص الإجراءات فإن السبب الأول يبدو كما تناقلته وسائل الإعلام هو أن البيت الأبيض يرفض التعاون مع مجلس النواب في قضية تسليم تسجيلات أوكرانيا مما يعني أن الذاكرة تعود بنا شئنا أم أبينا لقضية ووترغيت حين رفض الرئيس نيكسون تسليم الأشرطة للكونغرس، مما يعني أن مجلس النواب سينتهي به الحال برفع الأمر للمحكمة الدستورية العليا لإرغام الرئيس على تسليم الأشرطة وكما هو معروف أن مثل هذا الإجراء يحتاج للكثير من الوقت والذي يبدو أن طاقم البيت الأبيض القانوني يعول عليه، السبب الآخر وهو وأنه وفي حالة تصويت مجلس النواب بعزل الرئيس وهو أمر ممكن بكونه مكوناً من أغلبية ديموقراطية بـ235 نائباً مقابل 197 نائباً جمهورياً ونائب واحد مستقل، فإن قرار العزل سيواجه تحدياً قوياً في مجلس الشيوخ والمكون من 100 سيناتور بواقع 2 سيناتور عن كل الولايات الأمريكية الخمسين بغض النظر عن حجمها وعدد سكانها، ومجلس الشيوخ وهو الجهة التي لها الشرعية الدستورية في عزل الرئيس ويتكون حالياً من 53 سيناتور جمهوري و45 سيناتور ديموقراطي وسيناتور واحد مستقل، مما يعني أن تمرير قرار العزل سيكون شبه مستحيل. بالنسبة للسبب الذي سيكون معه عزل الرئيس صعباً ويتعلق بشخصية الرئيس نفسه والذي يُعرف عنه بأنه لا يستسلم بسهولة، ونرى ذلك جلياً في خطوة استباقية محسوبة حين صرح علناً بأن على الرئيس الصيني أن يقوم بالتحقيق في مزاعم فساد في الصين من قبل أسرة جو بادين. خلال سنواته الثلاث التي مضت في البيت الأبيض جمع الرئيس ترامب قاعدة شعبية كبيرة مؤيدة له ممن يصفون أنفسهم بالوطنيين الأمريكيين ومن المسيحيين الأصوليين الذين يمثلون جُل قاعدته الانتخابية وأنجز تحسناً واضحاً في أداء الاقتصاد الأمريكي وتحسين الميزان التجاري لصالح أمريكا في مواجهة الأسواق المنافسة خصوصاً الأوروبية والصينة واليابانية وبانخفاض نسبة البطالة بين الأمريكيين ولدي الرئيس كذلك قدرة في بعث روح الانتماء لكل ما هو أمريكي، ونرى هذه الروح واضحة في العرض العسكري غير المسبوق والذي جرى في الرابع من يوليو المنصرم في ذكرى استقلال أمريكا عن بريطانيا وكذلك شعاره الذى كان أيقونة حملته الانتخابية وهو «أمريكا أولاً» America First.
تاريخياً ومنذ قيام الولايات المتحدة الأمريكية تعرض ثلاثة رؤساء فقط لإجراءات العزل، وهم: الرئيس الأمريكي السابع عشر الديموقراطي أندرو جونسون والذي حاكمه الكونغرس بتهمة مخالفة 11 بندًا تتعلق بتجاوزات في تعيين وعزل رسميين فيدراليين ونجي من العزل بفارق صوت واحد، الرئيس الجمهوري السابع والثلاثون ريتشارد نيكسون قدم استقالته قبل أن يتم عزله بسبب ووترغيت، بينما نجي الرئيس الأمريكي الثاني والأربعين الديموقراطي بيل كلينتون من العزل بسبب عدم تصويت مجلس الشيوخ بنسبة الثلثين اللازمة لعزله على خلفية قضية متدربة البيت الأبيض مونيكا لوينسكي، وذلك بتهمة الكذب على هيئة محلفين عليا وعرقلة العدالة. نجي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من تحقيقات المدعي المستقل روبرت مولر والذي كان الديموقراطيون يعولون عليه لإدانة الرئيس في التخابر مع الروس لمساعدته في الفوز بمنصب الرئاسة في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، موللر أكد في تقريره النهائي أن هناك قرائن عديدة تؤكد تدخلاً روسياً في التأثير على نتائج الانتخابات الأمريكية، بيد أن التقرير لم يصل إلى دلائل على تواطؤ الرئيس ترامب أو أعضاء حملته الانتخابية «No Collusion» مع الروس للتأثير على مسار الانتخابات الرئاسية الأمريكية. المؤشرات المنطقية توضح أن الرئيس دونالد ترامب سوف ينجو من إجراءات عزله كون غالبية الساسة الأمريكيين براغماتيين بطبيعتهم (بمعني أن نجاح العمل هو المعيار الوحيد للحقيقة) والرئيس ترامب نجح في أداء عمل جيد ومقنع لناخبيه وغيرهم، ونرى هذه البراغماتية واضحة فيما صرح به السيناتور الجمهوري جميس غريمز (James W. Grimes) حاكم ولاية آيوا وعضو مجلس الشيوخ الأمريكي في نقاشات المجلس لعزل الرئيس الديموقراطي أندرو جونسون، وذلك قبل مائة وخمسين عاماً خلت، حيث قال: I can)t agree to destroy the harmonious of the constitution for the sake of getting rid of an unacceptable president» لا أستطيع أن أوافق على هدم الدستور من أجل التخلص من رئيس مُختلف عليه». بُرئ حينها الرئيس أندرو جونسون والمؤشرات والدلائل تُشير كذلك إلى تبرئة الرئيس دونالد ترامب.