د. خيرية السقاف
لا يدرك الغرُّ في نشأته منازل الحكمة، ولا يعي أبعاد المواقف إلا حين يكبر،
والكبر هنا لا يعني حصد السنوات، وعدد الخطوات، والنبضات حين تدب قدماه على الأرض، وتطول قامته فوقها..
بل ما يحصيه من المواقف، وما يمر به من محكات المواقف، حين يتسع وعيه، ويكبر فيه حسه، وإدراكه، وينضج فيه عقله، وفكره..
حينها يستعرض ما كان من إشارة منع، أو فسح، وما سمعه من تنبيه، أو تحفيز، وما نُهي منه، أو حُفِّز له من «كبار» من حوله، أولئك «الحكماء» الذين كان في «صغره» يظن بهم غلظة، أو تحجراً، ويرميهم تارة «بالجهل»، وربما «بالعقم» الفكري، وربما «بالتخلف»..
ومع أن الكبار بالنسبة لصغارهم في البيوت، وفي المدارس، في الجوار، والقرب، بل في الشارع، والحي السكني ليسوا على مستوى واحد من « صواب الرأي»، وعمق «الحكمة»، ونباهة الوعي، إلا أنهم في الواقع هم الخلاصة للتجارب التي مرّت بهم، التي أخذوها عمّن سبقهم، التي كوّنتها لديهم محكات الحياة، وتجارب التفاعل فيها، ومنحتهم إياها خبرات سنين تكاثفت على جذوعهم، وهم أيضاً المرجع للتاريخ، والمخزن للمتراكم المجتمعي، حين هم لأسرهم هذا المكنون..
فذو العُمر سنينَ طويلة ذو خبرة، وكل من له خبرة يملك من الحكمة بقدر مقدراته التي أعمل لها هبات الله فيه؛ قلبه، وعقله، ووجدانه، فهم بذلك مصدر للتربية، كما هم مرجع للقيم، والتقاليد، والعادات، تلك التي لا ينبغي أن تندثر باندثارهم، بل إنهم معين لفضائل اغتربت، ومعارف غُمِرت..
هؤلاء «الحكماء» ما نصيبهم في حياة أفراد أسرهم من الحدْب، والحرص، والتدوين، والوفاء؟!..
من هم الآن من أبناء الجيل النامي من يدرك أهمية ما ينطوون عليه من ثراء داخلي تحجبه عزلتهم عنهم، وصمتهم فيها، وانطواؤهم على أنفسهم، حين يجدون أنفسهم في غربة بين أبنائهم؟
ألا تُفتح الأبواب لهم ليقولوا فيؤخذ بما يقولون، ويُسمع لما يحدثون، وتدون عباراتهم كي لا تذهب معهم، وتُلتمس في خبراتهم الحكمة؟!..
فإن لم يفعل أبناؤهم، فلتستوعبهم «مجالس الأحياء»، ولتدون عنهم فيها ملامح المجتمع المندثرة، وهذه الآيلة للاندثار، ويحفظ عنهم إرثه من الحكمة قبل أن يصبحوا أثرا بعد عين..
وتتغير كل الملامح لحكمة الحياة في نماذج الغائبين عن أبنائهم، وخلَفهم، بل في المجتمع كله.