حمّاد السالمي
تُشكل مجالس القضاء في كل الدنيا؛ مكانًا فاصلاً بين الحق والباطل، ومكانًا حاسمًا في إنصاف المظلومين من الظالمين. والقضاة في مجالس القضاء؛ هم حكام تنفيذيون للنصوص الشرعية والقانونية التي يحتكم إليها الناس في قضاياهم الخلافية. وقليل من هؤلاء الناس؛ من يكون راضيًا عن القضاة، فإن أرضته أحكامهم؛ لم ترضه هيئاتهم ولا استقبالهم وتعاملهم مع المتقاضين، حتى أن بعضهم يتساءل: لماذا لا يبتسم القضاة؛ ولا يردون السلام على من يبادرهم بالسلام..؟ وهذا راجع لأسباب كثيرة.. بعضها راجع للقضاة أنفسهم، فهم بشر مثل بقية البشر، وبعضها راجع للناس أنفسهم؛ الذين يحكمون على القضاة من منطلقات ذاتية خاصة بهم. قد لا يعرف كثير من الناس؛ أبسط مفاهيم القضاء، ومنها: أن القاضي لا يتأثر بشائعات الناس وأقوالهم حول القضية المطروحة أمامه، أو بما تنشره الصحف والمجلات، أو تبثه الإذاعة، أو يعرضه التليفزيون في عصرنا. وكان القاضي إياس ينصح غيره من القضاة فيقول: (إياك وما يتتبع الناس من الكلام، وعليك بما تعرفه من القضاء).
مع هذا وذاك؛ لم يفكر المادحون أو القادحون للقضاة؛ في إنسانية هؤلاء القضاة أمام ما يعرض عليهم من قضايا لمتخاصمين، البعض منها يثير الشفقة والعطف، ذلك أن النفس الخيّرة حاضرة عند كل البشر، حتى عند القضاة في المحاكم.
كنت أتابع قبل عدة أشهر؛ ما يرشح من أخبار عن قضايا في محاكم دولية، وكيف أن بعض القضاة رجحوا الجانب الإنساني فيها على غيره، دون مساس بالعدل، ولا إضرار بحق عام أو خاص. سألت نفسي مرات ومرات؛ لماذا لا يتحفنا بعض قضاتنا -خاصة من تقاعد منهم- بقصص إنسانية من هذا القبيل..؟ من المؤكد أن محاكمنا لا تخل من مواقف كثيرة تتجلى فيها الجوانب الإنسانية من القضاة، أو حتى من بعض المتقاضين. هذا التدوين ونشره بين الناس؛ هو أدب فريد نفتقده، وسير ذاتية حسنة لأصحابها؛ ينبغي أن يقتدي بها مَن يأتي بعدهم في سلك القضاء.
تعالوا معي لنقف على ثلاثة نماذج.. أنموذجان من أمريكا، والثالث من مصر:
- ارتكبت الطالبة السعودية المبتعثة: (تهاني المنيع 25 عامًا) في مدينة (بروفيدنس بولاية رود أيلاند الأميركية)؛ ست مخالفات وقوف بسيارتها، مما استدعى محاكمتها مطلع العام الحالي 2019م. قيمة كل مخالفة 25 دولارًا، إضافة إلى 200 دولار غرامة.
- ظهرت المنيع في المحكمة وهي تبتسم، وقالت إنها كانت مضطرة لإيقاف سيارتها مقابل منزلها وتكبد قيمة المخالفات؛ خوفًا من تكرر حالات تهشيم زجاج السيارة من قبل سكارى. فما كان من القاضي (فرانك كابريو)؛ إلا أن يسقط جميع المخالفات.. بل زاد فأشاد بسلوك الطالبة، وأسقط عنها قيمة المخالفات وغرامات التأخير دفعة واحدة؛ نظير خسارتها السابقة وإصلاحها زجاج سيارتها المهشم.
- القصة الثانية لعجوز أمريكي: (جوزيف أبتون 90 عامًا). ارتكب مخالفة سرعة؛ لا يسمع جيدًا.. ساعدوه في المحكمة. قال بأنه كان يوصل زوجته المريضة (87 عامًا) للمستشفى. لم يرتكب مخالفة منذ 30 عامًا. صرف القاضي النظر في الدعوى، وتحولت المحكمة إلى نكات وضحك مع العجوز.
- وهذه قصة سجينة مصرية مديونة مع القاضي: (هشام الشريف) رئيس دائرة جنح مُسْتَأْنَف حُلوان في التسعينيات. عرف بالحلم والرحمة. وكان يخفض الكفالات للمواطنين المعسرين، ويدفع في أحيان كثيرة من ماله الخاص. عُرِضَت عليه قضية سيدة كانت تُحاكَم بتهمة تبديد مبلغ عليها وعدم السداد. دخلت المتهمة بقاعة المحكمة، وكانت امرأة عمرها قارب الخمسين، كانت محبوسة ولم يُفرَج عنها لعدم قدرتها على السداد. سألها القاضي: يا ست: ما دفعتيش الـ (7000 جنيه) ليه للمدعي..؟ وبصوت الباكي الخائف المرتعش؛ أخبرته المسكينة أن المبلغ ليس (7000 جنيه)، وإنما (1000) فقط.. اشترت به بضاعة من التاجر -والد المحامية الحاضرة في الجلسة- وأنها كانت تدفع له 60 جنيهًا كل شهر، لكن حصل لها ظروف منعتها من السداد. التفت القاضي للمحامية وسألها: كلام الست حقيقي..؟ فأنكرت المحامية معرفتها بالحقيقة. فما كان من القاضي إلا أن نظر إلى المتهمة وسألها عن حالها وبيتها، فعلم منها أنها أرملة وتعول ثلاث بنات، فنظر إليها بمنتهى الشفقة والرأفة وقال: ها تتحل إن شاء الله. وأمر برفع الجلسة، وقبل أن يدخل غرفة المُداوَلَة؛ وَجَّهَ كلامه إلى المحامين الحاضرين بالقاعة قائلاً: أعلم أنكم أصحاب فضل ومروءة، ولن تتأخروا عن فِعل المعروف، و أخرج مِنديلاً ووضعه على المنصة، ثم أخرج من جيبه مبلغاً من المال وقال: (هذه (500 جنيه) هي كل ما معي، ولا أدري مَنْ مِنَ السادة المستشارين سيشاركني لسداد دين هذه السيدة، وشكر الحاضرين ودخل غرفة المُداوَلَة. وبدأ المحامون في التباري في الدفع، فبدأ أحدهم بـ(1000 جنيه)، ثم توالى الباقون حتى ضم المنديل أكثر من (8000 جنيه)؛ وكانت المحامية ابنة صاحب الدَّين قد خرجت بسرعة إلى خارج قاعة المحكمة، لكي تتصل بوالدها وتخبره بما حدث بالقاعة، وعادت إلى القاعة، ونودي عليها حين أدخل القاضي المتهمة إلى غرفة المداولة، وأشار إلى المحامية قائلاً: فيه (7000 جنيه) موجودة بالمنديل، تقدري تأخذيها وتتصالحي مع المتهمة ونمشيها لبيتها. ولكن المحامية قالت: أنها سألت أباها وأخبرها بأن لا تأخذ أكثر من (500 جنيه)؛ هو المبلغ المتبقي على المتهمة. فشكرها القاضي وابتسم ناظرًا للمحامين وقال: أظن أن المحامية أخذت الـ(500 جنيه) بتاعتي..! فضحك الجميع، وقاطعهم قائلاً: وأظنكم لا تريدون أن يحرمكم الله ثواب المشاركة، وعلا صوت المحامين في الغرفة بالتأييد، فنظرالقاضي إلى المتهمة وقال: باقي (8000 جنيه). هذه من الله لكِ وللبنات. فضجَّت غرفة المداولة بالتهليل والتكبير.