د.عبدالله بن ثعيل الروقي العتيبي
تعاني الكثير من الدول العربية من تفشي ظاهرة اقتصادية كبرى هي ظاهرة الاقتصاد غير الرسمي، تلك الظاهرة التي تشغل حيزاً هاماً من مناقشات وأجندة صانعي السياسات ومتخذي القرارات في العديد من الدول العربية، وبالرغم من عدم وجود توصيف أو تعريف مقبول وشامل لمصطلح الاقتصاد غير الرسمي أو ما يطلق عليه أحياناً (الاقتصاد غير المنظم) إلا أن هناك إدراكاً واسعاً بأن هذا المصطلح يشمل مجموعة كبيرة من الأنشطة والعمالة والمنشآت المتنوعة.
إن قضية الاقتصاد غير الرسمي لا تتعلق فقط بتقنين أوضاع بعض الباعة الجائلين أو المكاتب غير الرسمية أو المصانع المجهولة أو عربات طعام أو بعض المقاولين والعاملين في قطاع التشييد والبناء والذين لا تشملهم مظلة التأمينات الاجتماعية ولا يخضعون للضرائب العامة التي تفرضها الدولة، بل تتعلق هذه القضية بإشكالية أكبر، حيث تعد ظاهرة اجتماعية واقتصادية معقدة ترتبط بالفجوة المؤسساتية لشكل العلاقات الاجتماعية غير الرسمية المنظمة للنشاط الاقتصادي وبين مؤسسات الدول العربية، وهو ما ينتج عنها شكلاً من أنماط تداول القيم والمعاملات الاقتصادية استنادا إلى القواعد التي لا تفرضها أي دولة عربية ومؤسساتها، لذلك فإن أي محاولة لفهم وتحليل السمة (غير المنظمة) أو (غير الرسمية) في أي دولة عربية يتطلب الفهم الموسع لأبعاد وديناميكيات الاقتصاد غير الرسمي سواء على مستوى المنشآت أو وحدات الإنتاج أو خصائص العمالة أو الوظائف أو الأنشطة التي يشكلها، وما يعقد هذه الإشكالية أن المؤسسات الرسمية في كثير من الدول العربية تتبنى خطابا مبتسرا يغيب عنه الرؤية الشاملة للطبيعة المعقدة لظاهرة الاقتصاد غير الرسمي، فضوابط فهم الاقتصاد غير الرسمي، والتي أسفرت عنها جهود ومناقشات المؤسسات الدولية، كان محورها قضية الاستبعاد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي جعل من الاقتصاد غير الرسمي ملاذاً للمستبعدين من الأطر والسياسات والتنظيمات الرسمية، سواء كان هذا الاستبعاد قصرياً أو طوعياً، لذلك تبدو نتائج كثير من المبادرات والسياسات الرسمية والتي هدفت إلى «دمج» أنشطة الاقتصاد غير الرسمي محدودة، حيث إن الحديث عن عملية دمج في الوقت الحالي يعد شيئاً منطقياً وخاصة لوجود الكثير من عوامل الترابط والصلات المتداخلة بين الاقتصاد الرسمي والغير رسمي، وكذا الأطر التنظيمية الرسمية والسياسات الاقتصادية الكلية في تغذية أسباب هذا الاستبعاد.
وفي دراسة أعدها صندوق النقد العربي في عام 2017م عن الاقتصادات غير الرسمية في بعض الدول العربية، جاءت ليبيا في المركز الأول بنسبة 24.5 %، تليها مصر بنسبة 23.12 % ثم تونس بنسبة 22 % ثم المغرب بنسبة 11.3 % وأخيراً الإمارات بنسبة 1 % فقط.
وحتى يتضح لك عزيزي القارئ المفهوم الحقيقي للاقتصاد غير الرسمي فإننا نود أن نوضح أن الكثير من الكتاب المتخصصين على مستوى العالم قد أطلقوا على هذا النوع من الاقتصاد مصطلح اقتصاد الظل Economy Shadow بسبب تعدد الأنشطة الخفية وتنوعها داخله، وهذا ما جعل البعض الآخر من الكتاب الاقتصاديين يطلقون عليه مصطلح الاقتصاد غير المنظور»Economy Unobserved «أو»Economy Underground
ويخلط البعض من المتخصصين بين كل من مفهوم الاقتصاد غير الرسمي وبين مفهوم الاقتصاد الأسود أو ما يمكن أن يطلق عليه (الاقتصاد غير القانوني أو غير الشرعي)، وهو نشاط مدمر للاقتصاد الوطني ويضر بحالة السلم العام مثل تجارة السلاح وما على شاكلته من تجارة للممنوعات بكافة أشكالها، أو غسيل الأموال، ولكن في حقيقة الأمر فإن ما نقصده بالاقتصاد غير الرسمي هو كافة الأنشطة والممارسات الاقتصادية التي تنتج خارج منظومة الاقتصاد الرسمي للدولة، والتي تسعى الحكومة بضبطها، وتتصف هذه النشاطات الاقتصادية بأنها لا تخضع لأشكال التحصيل الضريبي، كما لا تخضع للمراقبة من قبل الحكومة حيث لا تدخل موازنتها ضمن الناتج القومي العام للدولة، وتنتشر هذه الظاهرة في جميع دول العالم وإن كانت تزيد بشكل مضطرد في الدول النامية عنها في الدول المتقدمة، وبناء على ما تقدم فيعتبر موضوع الاقتصاد غير الرسمي من أهم المحاور الحديثة التي أثارت اهتماماً كبيراً في دراسات الباحثين الاقتصاديين فهذه الظاهرة وإن اختلفت تسميتها بالاقتصاد الموازي، أو الاقتصاد الباطني، أو القطاع غير الرسمي، أو السوق السوداء، أو الاقتصاد المخفي، أو الاقتصاد غير المنظم، أو الاقتصاد غير المنتج، والعديد من المسميات التي تعكس نفس المفهوم، والتي شكلت اتجاهاً هاماً في الدراسات التي تقوم بها المنظمات العالمية كمنظمة التعاون الاقتصادي K(OCDE) ومكتب العمل الدولي (BIT) ، والبنك الدولي، حيث تعرضت هذه الأخيرة إلى البحث عن أسباب انتشار هذه الظاهرة ودرجة خطورتها وكيفية معالجتها.
من الملاحظ أن ظاهرة الاقتصاد غير الرسمي ازداد انتشارها في البلدان النامية بشكل كبير ما يدعو إلى تدارك خطورة الوضع إذ تتراوح نسبها ما بين 40 % إلى 60 % من الناتج الداخلي العام، فمن خلال التقرير الذي قدمته منظمة العمل الدولية حول الاقتصاد غير الرسمي ذكرت أنه في البلدان النامية يوجد هناك ما بين 50 و75 % من القوى العاملة الغير زراعية تعمل في الاقتصاد الغير الرسمي، وعلى الرغم من وجود صعوبة واضحة في التعميم لأن هناك عاملا آخرا إضافيا يدخل في هذا التعبير، وهو عدم وجود فرص عمل مع وجود الفقر، أيضا فقد أوضحت منظمة العمل الدولية آليات البناء حيث تطرقت إلى مجموعة من الأمثلة من السياسات الناجحة بشأن الأهداف الاستراتيجية، حيث دعت منظمة العمل الدولية إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات العاجلة لمساعدة الشباب في هذه الدول النامية من أجل إنقاذ الشباب للانتقال من الاقتصاد غير الرسمي إلى الاقتصاد رسمي.
وبما أن للاقتصاد الغير رسمي العديد من السمات السلبية لما يشكله فعليا من خطورة على العديد من القطاعات الرسمية داخل الدولة، علاوة على أن مواجهة قطاع المشروعات العشوائية غير الرسمية لابد له من وضع حلول عاجلة وغير تقليدية للعمل على تشجيع هذا القطاع على ضرورة الاندماج والتعامل الرسمي بما يكسبه صفة الشرعية جنبا إلى جنب مع القطاع الاقتصادي الرسمي للدولة، ومن أجل ذلك نرى أنه من الضروري العمل على تشجيع ذلك القطاع الغير رسمي لسرعة الاندماج داخل منظومة القطاع الرسمي من خلال جملة من الإصلاحات العاجلة التالية:
1. أن تسعى الحكومات بتقديم المساعدات المالية العاجلة في شكل قروض لقطاع الاقتصاد غير الرسمي لكي يقوم هذا القطاع بدوره في التنمية وتسجيل موظفيه في منظومة التأمينات وخروجهم من كشوف البطالة الرسمية.
2. شرعنة العمل في القطاع غير الرسمي من خلال التسجيل القانوني والحماية الضريبية بشكل ميسر لتلك المنشآت حديثة النشأة.
3. ضرورة أن يشمل التأمين الاجتماعي والصحي الأفراد العاملين في هذا القطاع مساواة بأقرانهم المسجلين في مؤسسات الاقتصاد الرسمي.
4. ضرورة وجود شكل ميسر في التعامل من الجهات الرقابية في الدولة مثل الضرائب والبلدية والشئون الصحية نحو العاملين في هذا القطاع.
5. العمل على شرعنة مشكلات المصانع العشوائية والغير مرخصة طالما تتمته بأنظمة الأمان الصناعي والحفاظ على البيئة وتراعي حقوق العاملين بها.
6. تفعيل دور الأجهزة المحلية في عمليات الرقابة الداخلية على كل من العمالة السائبة أو الباعة الجائلين لضمهم لقطاع الاقتصاد الرسمي وذلك بتقنين وتشريع أعمالهم من خلال إصدار تراخيص لأماكن البيع مقابل قيمة مالية ميسرة.
** **
- عميد البحث العلمي بجامعة الحدود الشمالية