د.محمد بن عبدالرحمن البشر
سأومئ إلى قصة قد سمع البعض عنها، وهي تتعلق بأحد الملوك المناذرة اللخميين الذين حكموا الحيرة بالعراق لأكثر من ستمائة عام، ولخم كما يقول بعض الرواة حلف بين بني نصر، وبن عباد، بعد أن طوى سيل العرم سد مأرب، فذهب العباديون إلى البحرين، وبني نصر إلى الحيرة، ومن ثم توافقوا على الحلف بينهم، وسموا لخماً.
وإيرادها ليس للقصة ذاتها وإنما لما فيها من واقعة قد تكون عبرة لذي لب، ومن أراد التفكر، وأن مآل الحياة إلى الزوال، ولن يبقى إلا ما عمل المرء من خير في دنياه، وما اجتهد في عبادته لأخراه، ولن يكون السرد التاريخي في هذه المقالة غاية، ولكن عبرة لذوي التدبر والدراية.
وبعد سلسلة الملوك بعض المناذرة، تخللها حكم الحارث بن عمر بن حجر، وصل إلى الحكم في الحيرة، عمرو بن المنذر، وهو الذي يقال له عمرو بن هند، ولم يكتفِ القوم بتلقيبه بأمه، وإنما بألقاب أخرى، تدل على سطوته، وشدة بأسه، فيقال له مضرط الحجارة، أي أن الحجارة تضرط إذا وطأها لشدة بأسه، وهذه غاية في المبالغة، لكنها إشارة إلى قوته وسطوته، ويقال له محرق الثاني، لأن المحرق الأول هو أول من أحرق بالنار، والنعمان ثاني من عرف عنه حرق البشر بالنار.
أمه هند ابنة عمة امرؤ القيس الشاعر ابن عمر بن حجر الكندي آكل المرار، ولدت للمنذر بن السماء عمراً وقابوساً والمنذر، وهو الذي قتل به عمرو بن كلثوم الشاعر الجاهلي المشهور، وصاحب القصيدة المشهورة التي ملأها فخراً ومبالغة، ولذلك قال الأخطل:
أبني كليب إنّ عمّيّ اللّذا
قتلا الملوك وفكّكا الأغلال
وإني لأعجب لشاعر يفخر بقتل أجداده لإنسان آخر سواء كان ملكاً أو من سائر الخلق، صحيح أن أم الملك قد أهانت أمه كما تقول الرواية، لكن هل ذلك يستوجب القتل؟ والأخطل في قصيدته يعني بأحد عميه عمرو بن كلثوم قاتل عمرو بن هند، وبالعم الآخر مرة بن كلثوم قاتل المنذر بن النعمان بن المنذر، والحقيقة أن المنذر بن النعمان كان قاسياً، ظالماً شديد البأس، ليس له دين، ولا تردعه قيم وأخلاق، وقد ولد الرسول الكريم محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم-، وعمرو بن الهند على كرسي ملكه، وبقي بعد ولادة المصطفى -عليه الصلاة والسلام- ثماني سنين، وستة أشهر، وبعد قتل عمرو بن هند، تولي الملك أخوه قابوس بن المنذر، الذي كان ضعيفاً ليناً، مولع بالنساء، وقتله رجل من بني يشكر، ثم ملك المنذر ثم الأخ الآخر لعمرو بن هند.
وصل الحكم إلى النعمان بن المنذر، وكان له يوم سعد في كل عام ويوم بؤس، فأول قادم إليه في يوم سعده يكرمه ويجزل له العطاء، وأول قادم إليه في يوم بؤسه يقتله، وصادف ذات يوم أن ضاقت الحال بعبيد ابن الأبرص الشاعر، فركب راحلته إلى الحيرة، حيث النعمان بن المنذر لعله يصادف يوم سعده لكنه ولسوء حظه وافق يوم بؤس النعمان، فقتله، وكان لديه دلاءات من الدلو، ويسميها البعض طربالان، وكان يطليها، بدم من يقتلهم، في يوم بؤسه.
سأقف عند هذه النقطة متعجباً من هذه اللذة الغريبة في قتل الأبرياء دون ذنب اقترفوه سوى أنهم وصلوا إليه في يوم بؤسه وكان الأمل يحدوهم أن يجدوا منه خيراً، أو يتركهم وشأنهم، ثم أقف متعجباً عند هذه الشمفونية الغريبة، بطلاء الدلاء بدماء الأبرياء، وقد جهزت لجلب الماء، من آبار الصحراء، إنها متعة الظلمة القساة في زمن الجاهلية، ولهذا فقد جاء الإسلام ليرفع الظلم، ويتم مكارم الأخلاق، فمن ليس لديه وازع أخلاقي فهناك وازع إيماني يردع الظالم عن ظلمه.
تقول بعض الروايات إنه قد تراجع عن تلك العادة وذلك الظلم بعد أن دخل في النصرانية على يد عدي بن زيد، الذي أقنعه باعتناق النصرانية، ويذكر الرواة أنه كان راكباً راحلته، وبجواره على الراحلة زيد بن عدي النصراني، قبل ظهور الإسلام.
ومَّر الركب بربوة فيها مقابر من سلف من القوم، فالتفت إليه زيد بن عدي، وقال له أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه المقابر؟ قال لا، قال إنها تقول:
أَيُّهَا الرَّكبُ المخِبُّونَ عَلَى الأَرضِ المجِدُّونَ
فَكَمَا أَنتُمُ كُنَّا وكَمَا نَحنُ تَكُونُونَ
فقال له النعمان أعد، فقال:
ربَّ ركبٍ قد أناخوا حولنا
يشربون الخمر بالماءِ الزلالِ
ثم أضحوا لعبَ الدهرُ بهم
وكذاك الدهرُ حالٌ بعد حال
ويقول الرواة إنه فكر ملياً وعاد له رشده واعتنق النصرانية، وترك يوم السعد والبؤس، وكره الظلم وأقلع عنه، وأخذ في فعل الخير، فإن كان الأمر كذلك فهذه نعمة منّ الله عليه، حيث ترك ظلم العباد، راجياً من الله الثواب، آملاً في حسب المآب،
وهناك من الرواة، من يرون أنه لم يرعوِ، ولم يعُد عن غيه، وأنه استمر على حاله، حتى مات، وربما يكون ذلك أقرب للواقع، فهو يستقي قوته من الفرس الذين يعتنقون بالزرادشية، الثانوية النور والظلام.
إن كان قد عاد فالعود أحمد، وإن كان قد استمر على حاله، فالله أعلم بمآله، وكل إلى زوال.