الجزيرة الثقافية - محمد هليل الرويلي:
ضيفتنا هذا العدد في زاوية (ذاكرة الكتب) نجمة كويتية, وهي بحق نجمة نالت من اسمها نصيب الوفرة! إذ أقنعت النجوم أن تفتر منصاعة جاذبة الضوء لعوالمها الساحرة وأفلاكها المقمرة برضا وتناه لتنظّم الأوهاج وتنظُم الوهج, منصاعة حينًا تكون علامات لخرائطها المدهشة, وأحايين صوب جيدها مهتدية قبل أن تواصل منازلها السير والمسير فتتجلى بكامل زينتها تُرصِّع أوراقها البيضاء بلغة مازتها كشاعرة وباحثة وأديبة وأثرت بتجاربها الخلاقة المشهد الكويتي والحركة الإبداعية الخليجية والعربية ضيفتنا الدكتورة نجمة إدريس.
نعم, كل ذلك حدث ولا نجمة غابت عن نجمة - هذا ما قاله المحرر- أما ما كتبته, فتحت عنوان «الكتاب وسؤال الكتابة» مشعلة صافرة بدء ومعلنة بلا هوادة, تساؤلاً عريضاً ينم عن عمق رؤية شسيعة الأبعاد والأمادي إذ قالت: لا يمكن المناورة حول الكتاب دون استحضار سؤال الكتابة، فهما وعاءٌ وماء، أو قلبٌ وسويداؤه النابضة. قراءة الكتاب بالنسبة لي طقس حياتي، ومفردة من مفردات الوقت، به استكمل صورة الوجود وأسدّ ثغراته وأملؤه بالمعنى.
هذا التقليد يخلق نسيجاً آخر
من قماشة
وجدتُني في الآونة الأخيرة أحيي تقليداً أو عادة كانت متواترة عندي منذ زمن، وأعني بذلك إشباع الهوس بإعادة قراءة الكتب التي سبقت قراءتها سلفاً. ليس للمسألة علاقة بالمتاح من الفراغ، أو قلة اقتناع بما تقذفه المطابع وتعرضه دور النشر من جديد المؤلفات، ولكن للمسألة في يقيني وجهاً آخر. فأنا من الذين يعتقدون بأن أي كتاب يحرّضك على قراءته للمرة الثانية على الأقل، فهو كتاب مميز وذو بصمة.
وتابعت: للقراءة الثانية متعة عجيبة، فالقارئ يمتلك سلفاً خارطة عامة لمعالم الموضوع أو الحدث، ولكن تبقى للتفاصيل الصغيرة، والإشارات الموحية، ومواقع المعاني والألفاظ، حين استحضارها من جديد، لذة نادرة تُذكّر بطعم قهوة معتقة شربتها ذات أصيل، على شرفة صيفية، تتزحلق في وادٍ ذي زرع وخضرة وضباب.
قد يكون لخيانة الذاكرة دور في هذه المتعة، حين ترمم أثناء القراءة الثقوب والخيوط الضائعة في النسيان، فتخلق لنفسك نسيجاً آخر من قماشة لحمتها ما بقي في الذاكرة وسداها ما نسيته، فتفرح بهذا المخلوق الجديد وكأنه ابنك الضال الذي عاد بعد عقوق.
مدمنو أفيون ومرضى ماسوشيون
وتفصيلاً قالت: ليست كل الكتب صالحة لإعادة القراءة، وإنما أعتقد بأن أجدرها بالإعادة الكتب الأدبية على وجه الخصوص، والأعمال الإبداعية على وجه أخص. ففي هذه الأعمال يظل قلب الإنسان ووجدانه كامناً كالجمرة المباركة، التي وإن غلفها الرماد عبر الأيام فإنها تبقى كامنة ومتوقدة وأبدية أيضاً، ولا تحتاج إلا إلى نفخة خفيفة لتعود إلى الحرارة والتوقّد. من منا لا يستلذ ذلك البوح الشجي في رائعة (الأيام) لطه حسين، أو رواية (بقايا صور) لحنا مينة، وإن قرأهما للمرة المائة؟ من منا لا تمتلئ نفسه بالغبطة والعنفوان كلما أعاد قراءة روايات (زوربا) أو (العطر) أو (ثلاثية نجيب محفوظ)؟ من منا لا يستطعم لحم الألم وعظمه في سير حياتية مؤثّرة مثل (رحلة جبلية رحلة صعبة) لفدوى طوقان و(خارج المكان) لإدوارد سعيد و(فسيفساء دمشقية) لغادة السمّان، مرة بعد مرة كما يفعل مدمنو الأفيون أو مرضى الماسوشية. من منا لا تطنّ رأسه بالأسئلة القديمة المتجددة كلما أطال القراءة في (أولاد حارتنا) أو (هكذا تكلم زاردشت) أو (رباعيات الخيام)؟ أما الإدمان على استرجاع حكمة المتنبي، ووجودية أبي العلاء، وعدمية طرفة، واحتفالية أبي نواس كلما عنّت الحاجة فتلك مسألة لا تحتاج إلى تنويه أو تذكير.
وزادت: هذا الانحياز لإعادة القراءة في الكتب الإبداعية خاصة، ليس مجرد ميل شخصي، ولكنني أرى أن هناك فرقاً جوهرياً بين هذه الكتب وكتب المعرفة الأخرى، التي - بالطبع - تفيض عن الحصر، لتشعبها ووفرتها المفرطة في عصر الانفجار المعرفي . وهذا الفرق يتمثّل في الأصالة المتجددة في الأعمال الإبداعية، والتي تظل خالدة لا تخبو ولا تنحسر على مر الزمن، لارتباطها بحاجات الإنسان النفسية والروحية. وقد تحدث أرسطو في تنظيره للمأساة والملهاة عن هذه الحاجات الأساسية، ومدى أهميتهما في إثارة مشاعر الشفقة والرأفة، أو المرح والغبطة. وكلها وجدانيات أصيلة ومتجذرة في تكوين الإنسان، الذي سيظل يجدّ في إشباعها وتحقيقها ما وسعه ذلك.
وهكذا تترسّخ في القراءات المتعددة ثلاث فوائد: علاج للذاكرة، وتغذية للوجدان، وتمرين للذهن. ومن منا لا يحتاجها؟
أما كتب المعارف الأخرى وتفريعات العلوم النظرية، فتظل مجرد محطات معرفية قابلة دائماً لأن يجبَّ أحدها الآخر وينسخه ويلغيه، ما دام التطور والارتقاء ديدن هذه العلوم وقانونها الراسخ. ولذلك فقراءة واحدة تكفي، قبل أن يتجاوزها الزمن ويخلفها وراءه.
ما الذي يسند الكتابة ويكرّسها؟
وفي جانب آخر عنونته «سؤال الكتابة» قالت الدكتورة نجمة إدريس:
أما حين نأتي إلى الكتابة، ونغرق في التأمل حول سؤال: ما الذي يسند الكتابة الجيّدة ويكرّسها؟ سنجد أنفسنا نسوق الاحتمالات والفرضيات، التي سرعان ما تتبعثر وتذوب إزاء ما يعارضها من نقض، ليعود السؤال من جديد أكثر إلحاحاً.
والمقصود (بالكتابة) في هذا السياق، تلك التي تصل إلى جمهور القرّاء وتنتشر وتتواتر عبر الزمن. ثم لا تقف متجردة ومنفردة كمعنى، وإنما يتم الربط المحكم بينها وبين كاتبها. إلى أنْ في مرحلة لاحقة يتقدم اسم الكاتب وشخصه ليحتّل الصدارة، فتصبح الكتابة تابعة له، وتُعرِّف به ككيان إنساني خلاّق.
وبيّنت «إدريس» أول الإجابات المحتمَلة عن سؤال: «ما الذي يسند الكتابة الجيدة ويكرسها «، ما يخص (الهيئة) الظاهرية. أي صورة الكاتب وشكله وصوته. أو بالأحرى جماع هيئته الظاهرية وما تمتلك من عناصر جذب. فهناك كتّاب يمتلكون الوسامة والأناقة وإيقاع الصوت المريح والمعبّر. وكلها عناصر تضيف لمعاني كتاباتهم أبعاداً جمالية، وقد ترفع أسهمهم في اجتذاب القلوب والعقول. وقد دأبت الصحف ووسائل النشر والإعلام على إبراز صورة الكاتب كعنصر ملازم لنصوصه، مما ساهم في عقد تلك الصلة المباشرة بين الهيئة والمعنى لدى القارئ، وخلق في لاوعيه آصرة الربط بين (الكتابة / المضمون) و (الصورة / الشكل).
غليون أدونيس وكف شوقي ونظارة طه السوداء
وأضافت: قريب من عنصر الهيئة لدى الكاتب، هناك سمة (القَبول) أو ما يُسمى (الكاريزما) . وهي هبة ربانية أصيلة، تتأتى للإنسان من حيث لا يحتسب. وقد تتغلب (الكاريزما) على الشكل والهيئة وتغلبهما، وتصنع للكاتب جاذباً سحرياً لا يُقاوم. أما لو اجتمع المظهر الجمالي والقبول، فتلك نعمة عظمى، قد تشكّل فارقاً أساسياً في بناء مجد الكاتب وتكريس ميراثه. ولنا أن نستحضر ما نشاء من صور الكتّاب المبرّزين، ونرى مدى تأثير صورهم وهيئاتهم في خلق تصوراتنا عمَّا يكتبون، ثم قيمة ما يكتبون. أحمد شوقي وهو يسند رأسه بكفه مفكراً. طه حسين بنظارته السوداء وملامحه الجادة المتطلعة إلى الأعلى. أدونيس وهو يحمل الغليون ويجلس متكئاً. غادة السمان وهي لا تزال تراوح عند (بروفايل) النظرة الجانبية الآسرة لامرأة تقول لك إنها تمتلك السحر والفكر. فهد العسكر بعقاله وجاكيتته وعينيه المختبئتين وراء الأسود الغامض. محمود درويش بنظارته الطبية السميكة وملامحه المحتقنة وصوته المبحوح.. وغيرهم. أما من لم يمتلك شروط الهيئة الجمالية المتعارف عليها، فقد امتلك القبول و(الكاريزما)، أو الظرف، أو الحضور الطاغي، كبدر شاكر السياب، وعبدالله البردوني، وأحمد فؤاد نجم. كل هذه الصور والهيئات المعنوية صنعت لنا ذلك التناصّ التلقائي مع ما نقرأ، وعزّزت الربط بين الشكل والمضمون.
هذه الفرضية قد تجد ما يناقضها، وقد لا تكون المسؤولة الوحيدة عن تكريس الكتابة الجيدة. فنحن لم نرَ للمتنبي وطرفة والجاحظ وأبي العلاء وغيرهم من أعلام التراث الإنساني صوراً ولا رسوماً، ورغم ذلك فكتاباتهم مكرّسة عبر شروط أخرى فنية وقيمية. فهل ساهمت أمور أخرى في رفع حظوظهم؟ كالعلاقات مثلاً؟ ووضعهم الاجتماعي؟ وبيئاتهم الثقافية؟
خارج هيئة الجمال ولا عنده
كريزما ولا علاقات
وتابعت في مجمل إجابتها عن سؤال الكتابة: إن مسألة (العلاقات) تبدو لي شديدة الحضور كعامل مساند في شتى العصور وإلى عصرنا الراهن. وأعتقد بأن أي كاتب يعوّل على صعود سلّم الشهرة والتداول، فعليه بالعلاقات، وإجادة فنها. إذ إن العلاقات -كما هو معروف- باتت علماً وفناً، وذات صلة بالذكاء الاجتماعي، والانفتاح، وتعلّم مهارات التواصل. فإنْ اجتمعت الكتابة الجيدة وهذه الجهود في مجال العلاقات، فربما أنتجت حصاداً مستحقاً.
تبقى فئة من الكتّاب لن يشفع لهم تميّزهم وأصالتهم، ما داموا خارج إطار الهيئة الجمالية والكاريزما وفن العلاقات. هؤلاء يسقطون في فجوات الزمن، وتجرفهم أمواج الأيام نحو شواطئ اللا مبالاة. ولا عزاء لكُتّاب الظلّ.