«إن الحياة الحقيقية، الحياة التي تم أخيراً اكتشافها وتوضيحها، الحياة الوحيدة المعيشة بامتلاء، هي الأدب»
- مارسيل بروست
مقدمة
أفنى مارسيل بروست marcel proust، 1871-1909 عمره في كتابة روايته الخالدة (البحث عن الزمن المفقود A la recherche du temps perdu
وجاءت هذه الرواية المهمة كثمرة لعوامل شخصية واجتماعية وثقافية، تمثلت العوامل الشخصية في حساسيته ومرضه بالربو منذ صغره، وعوامل اجتماعية في علاقاته الاجتماعية مع نماذج اجتماعية متعددة وطبقات اجتماعية متنوعة وصالونات اجتماعية، وارتباطاته الاجتماعية جعلته يرتاد غرف الضيوف الفخمة لدى النبلاء. وعوامل ثقافية تمثلت في تفاعله مع عصره وتأثره بكتَّاب وفنانين عمالقة، فمن الشعراء راسكين وجوته ومالرميه، والأدباء فولتير وزولا وجيد وبلزاك وتولستوي، والفنانين جاردنر، وفاغنر.... وغيرهم.
كانت أعماله الأولى مثل (المتع والأيام) Les Plaisirs et les jours 1996 وغيرها عبارة عن مخططات أولية لعمله الكبير (البحث عن الزمن المفقود)، كان يعزف ألحانًا متعددة على أوتار متعددة ليحقق عزف سيمفونيته الرائعة (البحث عن الزمن المفقود)، كل أشعاره وقصصه الأولية بروفات وتهميشات أولية لكتابه العظيم. ففي كل جزء من (البحث عن الزمن المفقود) نجد بصمات وبذور من أعماله القديمة والمتعددة.
بروست أعاد كتابة «ألف ليلة وليلة» بلغته ومضمونه وأسلوبه وثقافته الفرنسية الثرية ليكتب تاريخ باريس وفرنسا في زمن مهم استعاده بروست، حقق حلمه وأسعد قراءه عبر أزمنة متعددة، وخلد اسمه لأجيال وثقافات عديدة ما زالت تنهل منه حتى يومنا الحاضر.
وبينما كان يشرب الشاي ويتناول الخبز المحمص في شهر يناير/كانون الثاني عام 1909، عاد به الزمن إلى الوراء ليسترجع ذكريات شبابه التي قضاها في حديقة جده.
استغرقت كتابتها 14 سنة من عام 2008 حتى عام 2027.
حياة وإنجازات بروست
وُلد مارسيل بروست عام 1871 في باريس من عائلة باريسية مرموقة، درس القانون والأدب، وبعد أن أنهى دراسته في معهد الدراسات السياسية في باريس بدأ في كتابة القصص القصيرة والمقالات للصحف الفرنسية، حيث نشر قصة «المتع والأيام
«Les Plaisirs et les jours في عام 1896 كاول أعماله.
وفي عام 1895، سعى بروست إلى تأليف رواية أدبية، ولكنه لم يكن واثقًا من قدراته فتخلى عن إكمالها عام 1899. ولكن هذا العمل قد نشر سنة 1952 بعنوان «جين صانتوي Jean Santeuil ». وبعد أن تخلى عن إكمال هذه الرواية تابع دراسته، واتسع نطاق قراءاته ليشمل المؤلفات الأدبية بمختلف مجالاتها.
وفي عام 1899 اهتم بروست في أعمال الناقد الإنكليزي جون روسكين John Ruskin. وساهم مع آخرين في ترجمة أعماله إلى الفرنسية، واعتبر أحد المهتمين فيه، وبعد وفاة روسكين سنة 1900، نشر بروست مقالة عنه. تعتبر مولفاته «المتع والأيام» نصوصًا متنوعة، نحو خمسين نصًا كتبها خلال عشر سنوات، وكتاب «جان صانتوي» رواية تمهيدية للبحث عن الزمن المفقود، أمضى فيها أربع سنوات، وأعمال «راسكين ترجمات ودراسات» أمضى فيها ست سنوات، ثم «البحث عن الزمن المفقود» استغرقت أربع عشرة سنة.
يختلط في الرواية السرد والشعر والرسم والموسيقى وتمتزج فيها الفنون لتشكل لوحة جميلة تمثل ثقافة بروست وعصره.
مارسيل بروست عود طيب فاخر أحرق نفسه ليعطي أجمل رائحة عطرية فنية.
رواية البحث عن الزمن المفقود
تتكون الرواية من سبعة أجزاء، الجزء الأول يحمل عنوان «جانب منازل سوان»، ويحكي في هذا الجزء عن بداية حياته في فرنسا والعقبات التي واجهته. والجزء الثاني يحمل عنوان «في ظلال ربيع الفتيات»، ونشره عام 1919م وحاز جائزة غونكور في العام نفسه. أما الجزء الثالث، فهو يحمل اسم «جانب منزل غرامنت» ونشر عام 1921، ويتحدث عن الحرب والخدمة العسكرية. الجزء الرابع يحمل اسم «سودوم وعموره». والجزء الخامس يحمل اسم السجينة، وفي هذا الجزء ينتقد الكاتب بعض طبقات المجتمع. والجزء السادس يحمل اسم الشاردة. أما الجزء السابع والأخير فيحمل اسم «الزمن المستعاد»، نشر في عام 1927 ويتحدث عن باريس خلال فترة الحرب العالمية الأولى.
خصائص الرواية
تميزت رواية «البحث عن الزمن المفقود» بأنها اشتملت على المزايا والخصائص التي حددناها لتميز الروايات الخالدة، ومن أهمها:
- أول رواية عالمية إنسانية تعنى بحياة الطفولة وذكرياتها في الماضي من خلال أسلوب «التذكر أو التداعي الحر Free Associtions أو تيار الوعي». وهي تقنية حديثة في الرواية، ابتكرها بروست وأدباء آخرون أمثال جيمس جويس، وفرجينا وولف وغيرهم.
- أول عمل روائي يعيشه كاتبه، ويموت وهو يعمل به، وكأنه خصص حياته لهذا العمل الخالد، ولم ينشغل بأعمال أخرى غيره.
- تجسد الرواية مقولة (الروائي ماركيث) أن الروائي يكتب في حياته عملاً واحدًا وإن تعددت أشكاله وأسماؤه.
مغامرة البحث عن الزمن المفقود
رواية «البحث عن الزمن المفقود (الضائع)» رائعة مارسيل بروست ولعبته الجميلة خلال حياته، وصفها بعض النقاد بأنها «مغامرة كائن رائع الذكاء، مريض الإحساس، ينطلق من طفولته في البحث عن السعادة المطلقة، فلا يلقاها في الأسرة، ولا في الحب ولا في العالم، ويرى نفسه منساقًا إلى البحث عن مطلق خارج الزمان، شأن المتصوفين، فيلقاه في الفن، مما يؤدي إلى اختلاف الرواية بحياة الروائي وإلى انتهاء الكتاب لحظة يستطيع الروائي بعدما استعاد الزمان، أن يبدأ كتابه، فتنقلب بذلك الحية الطويلة على نفسها لتغلق الحلقة العملاقة..... إنها مرثاة للدمار الذي يصنعه الزمن بالأشياء والناس إن غفلت» (البحث عن الزمن المفقود، دار شرقيات للنشر، 1995 غلاف الرواية).
قالوا عنها:
وصف غراهام غرين بروست بأنه «أعظم مؤلف في القرن العشرين»،
وقال سومرست موم عن الرواية «أعظم عمل خيالي».
أحكي يابروست عن زمنك الضائع!، ويحكي بروست أول ذكرياته الجميلة مع أمه:
«...وكان عزائي الوحيد حينما أصعد للنوم أن أمي ستجيء لتقبلني بعد ما آوي إلى فراشي، ولكن هذا الوداع لا يدوم إلا وقتًا قصيرًا جدًا سرعان ما تنحدر بعده حتى أن اللحظة التي كنت أسمعها تصعد فيها ثم يجتاز الممر ذا البابين، حفيف فستانها الخفيف المصنوع من الموسلين الأزرق والذي تتدلى منه ثلاثة أشرطة من القش المجدول، كانت هذه اللحظة فترة أليمة بالنسبة إليَّ، فقد كانت تبشر باللحظة التي ستليها والتي تفارقني فيها وتنزل، حتى أن هذا الوداع الذي كنت مولعًا به إلى حد كبير بلغ بي الأمر أن أتمنى مجيئه متأخرًا ما أمكن التأخير، وأن يتطاول وقت الراحة الذي لم تكن أمي بعد قد جاءت في أثنائه، وكنت أبغى أحياناًً حينما تفتح بابي لتنصرف بعد أن تقبلني أن استدعيها ثانية وأقول لها: «قبليني مرة أخرى».... (البحث عن الزمن المفقود، الجزء الأول، جانب منازل سوان، ترجمة إلياس بديوي، دار شرقيات، 1995 القسم الأول، كوميريه، ص 93).
ثم يحكي بروست عن أهم محفزات ذكرياته وهي حلوى خالته:
«.... وفجأة برزت لي الذكرى، لقد كان الطعم طعم قطعة الحلوى الصغيرة التي تقدمها لي صباح الأحد «كومبرية» (لأني ما كنت أخرج في ذلك اليوم قبل أن يحين القداس) خالتي «ليوني» بعدما نغمسها في كوب الشاي أو الزيزفون حينما كنت أذهب لتحيتها في الصباح في غرفتها، ولم تذكرني رؤية قطعة الحلوى الصغيرة بشيء قبلما تم لي تذوقها، لأن صورتها ربما تخلت عن أيام «كوم بريه»، بعد أن اتفق لي مشاهدة الكثير منها مذ ذاك على رفوف بائعي الحلوى دون أن آكلها، فارتبطت بأخرى أحداث زمان، وربما لأنه لم يبق شيء من هذه الذكريات التي هجرت زمنًا طويلاً خارج الذاكرة فانفرطت بكليتها». (بروست، البحث عن الزمن المفقود، ص 114).
ويحكي بروست عن ذكريات قوة تأثير طعم الحلوى التي قادته لكتابة العالم من حوله:
«وما إن تعرفت طعم الحلوى الصغيرة المغموسة في كوب الزيزفون التي كانت تقدمها لي خالتي (مع أنني ما علمت بعد لماذا تجعلني الذكرى سعيدًا إلى هذا الحد وأنني اضطررت أن أرجي اكتشاف الأمر إلى ما بعد حتى سارع البيت الأغبر العتيق الذي على الشارع، وفيه كانت غرفتي خرج من كوب الشاي مدينة وحدائق» (الرواية، ص 114-115).
في الجزء الثالث المعنون (جانب منازل غرمانت) القسم الأول من الرواية، يصف بروست ويتحدث عن زوجته فرانسواز:
«بدت زقزقة العصافير الصباحية تافهة في نظر «فرانسواز»
كانت تنتفض لكل كلمة يقولها «الخدم» وتسائل النفس حولهم: إذ تزعجهم جميع خطاهم، فقد كنا أخلينا بيتنا، وما كان للخدم بالتأكيد أقل حركة في «السادس» من مسكننا السابق، ولكنها كانت تعرفهم وقد جعلت من غدوهم ورواحهم أمورًا بطبعها الود (ص 11)......» و«فرنسواز» التي ما كانت تغفل أقل ما ينتابها من ضيق كانت تدير رأسها إن أنا تألمت كي لا يغيظني أن أرى ألمي موضع رثاء وحتى مثار اهتمام. كذلك فعلت حالما أردت أن أحدثها عن بيتنا الجديد. ولما اضطرت «فرانسواز» على أي حال أن تذهب بعد انقضاء يومين لتجلب ملابس منسية في البيت الذي غادرناه منذ قليل فقد عادت، فيما كنت لا أزال عقب انتقالنا إلى البيت الجديد «محمومًا» واحس بي تحديًا في النفس مجهدًا من جراء صندوق طويل كانت عيناي تحاولان «ابتلاعه» كمثل ثعبان ضخم أقدم على ابتلاع ثور، عادت تقول تطبعها خيانة النساء أنه أوشكت تختنق في شارعنا السابق وأنها رأت نفسها قد ضلت طريقها تمامًا في سعيها للذهاب إلى هناك، وأنها لم تبصر قط أدراجًا صعبة إلى هذا الحد وأنها لن تعود للسكنى هناك «مقابل إمبراطورية» ولو وهبوها الملايين - وهي افتراضات مجانية- وأن كل شيء (وتعني ما يخص المطبخ والممرات) أفضل ترتيبًا في بيتنا الجديد. ولقد آن لنا أن نقول إن بيتنا هذا - وقد جئنا للسكنى فيه لأن جدتي كانت على غير ما يرام من الصحة، وهو سبب حرصنا ألا نذكره لها فكانت بحاجة إلى هواء أكثر نقاء - كان شقة تابعة لفندق الـ«غير مانت» (ص 11). أن ذاكرة الطفولة عند بروست شلال تدفق في هذه الرواية العظيمة وتحول إلى تدفقات عديدة تحولت إلى موجات من الذكريات تطورت مع الأيام والزمن لتضم آلافًا من البشر تتوزع على 4300 صفحة ومليون ونصف المليون من الكلمات وسبعة فصول لتكون تاريخًا فنيًا لمدينة باريس.
طفولة بروست
تعرضت شخصية بروست لضعف ووهن سيكولوجي مع الأزمات الصحية التي لازمته منذ ولادته، حيث وُلد وهو يحمل بذور بعض الأمراض مثل الربو والتي صبغت شخصيته وعاطفته وحساسيته، وساهمت في تفانيه لإنجاز روايته، حيث كان يعمل عليها بالليل وينام في النهار.
يقول في رسالته إلى جدته:
«جدتي العزيزة: أرجو منك أن لا تثير تلك الرسالة غضبك عليَّ، فأنا منذ أن تعرضت إلى اللوم والتقريع في ذلك اليوم أصبحت أشعر بالخوف من العقوبة مرة أخرى. بيد أن مدام كانوس وعدتني بأن تغني أغنية قصيرة من أجلك، إن أنا بدأت برسم بورترية لها وأغنية أخرى طويلة عندما أرسمها وما أشاء أطلب من أغانٍ من أجل ذلك العمل والجهد...»( رسائل مارسيل بروست، ترجمة ربيع صالح، الرافدين، 2019، ص 21).
ويشير في هذه الرسالة إلى ضعفه وحبه للشعر:
«كانت أحاديثي مع مدام كاتوس بمنزلة مواساة لأحزاني وللضجر الذي يزفره ساليس بوجه كل من ليس لديه ما يكفي من «عضلات مزدوجة الحجم» كما يقول أهالي تاراتارين، ما يجعلني أذهب باحثًا في بكارة الريف وعذوبته عن بذور الشعر الذي لا غنى للوجود عنه، فمن دون الشعر تبدو الحياة قاحلة مجدبة». (المصدر نفسه، ص 22).
وتعود الذكريات في الجزء الرابع المسمى (سدووم وعمورة) يقول بروست متذكرًا زمنه المفقود مع الأميرة «دوغيرمانت»:
«كنت أنتظر دوري خلف بعض المدعوين الذين سبقوني، وكان قبالتي الأميرة التي لم يكن جمالها وحده دون شك، من بين الكثير سواء ما يذكرني بذلك الاحتفال، ولكن وجه ربة البيت كان شديد الكمال، كان محفورًا كميدالية جميلة إلى حد أنه احتفظ بالنسبة إليَّ بخاصية تذكريه، وكان عادة الأميرة أن تقول لمدعويها حينما تلتقيهم بضعة أيام قبل أحد أمسياتها « سوف تأتون، أليس كذلك؟» كما لو داخلتها رغبة كبيرة في التحدث إليهم، ولما لم يكن عليها على عكس ذلك أن تحدثهم في شيء فقد كانت تكتفي حالما يصلون أمامها، ودون أن تنهض، بقطع حديثها المقيم مع صاحبتي السمو وزوجة السفير وبإسداء الشكر وهي تقول «لطيف أنكم جئتم» لا لأنها ترى أن المدعو أبدى لطفًا بمجيئه بل لتزيد أيضاً في لطفها، ثم تضيف قولها وهي تدفع به في الحال إلى النهر «ستجد السيد» دوغيرمانت «على مدخل الحدائق»، وعلى هذا النحو كانوا يمضون الزيارة ويدعونها وشأنها، وما كانت حتى تقول شيئاً لنفر منهم وتكتفي بأن تريهم عينيها الرائعتين اللتين من عقيق اليمان كما لو أنهم أقبلوا إلى معرض للحجارة الكريمة فحسب» (ص39).
تنوعت ذكريات بروست ما بين ذكريات عائلية واجتماعية وثقافية وسياسية كالحروب والأزمات، وانعكست هذه الذكريات على جمال الرواية في كل أجزائها السبعة وأقسامها المتعددة، كما سنرى في الحلقة القادمة.
** **
- ناصر محمد العديلي