نَصبَ الخطاب الديني الإسلامي نفسه عدواً للفن منذ سنوات طويلة، والتبرير هو أن الفن في جوهره عدو للإسلام، ومنافٍ لطبيعة النفس البشرية!! ويدعو المسلمين لنزع تمسكهم بدينهم!! و الفن وسيلة للشرك!! والعمل في الفن مرفوض!! لأنه مبني على ثقافات أجنبية لذا إنتاجه يتطلب التجرد التدريجي عن كل ما هو إسلامي.
وربما أكسل أسباب التعليل وأقبحها القول: إن الفن مضيعة للوقت، لأنه شيء غير ضروري.
يقول عبدالوهاب المسيري :» الفن شأنه شأن الأخلاق والدين وكل الظواهر الروحية... لأنه يتجاوز الرؤية المادية»، المسيري يعتبر أن الفن هو الذي يجعل الإنسان إنساناً، لأن الحيوانات لا تعرف الفنون إطلاقاً، ومثلاً: القردة لا تنحت على الصخور عبارات رثاء، ولا تقوم الذئاب بالرقص الجماعي بشكل وإيقاع محدد للترحيب بالضيف، ولا تستعين الحيوانات التي تسكن الكهوف بالرسم للتعبير عن القلق والخوف من المجهول، وللدلالة على أشياء أكبر من وجودهم المادي.
يذكر المسيري واقعة مذهلة في علم الأنثروبولوجيا عن امرأة من شعوب الإسكيمو البدائية تاهت بعيداً عن قبيلتها وضاعت أثناء عاصفة ثلجية، فبدأوا بالبحث عنها وبعد عام كامل وجدوها في كهف وبداخله صنعت لها منزلاً بكفاءة عالية، ونسجت لنفسها ثوباً مطرزاً بزخارف متقنة تدل على هويتها، فيقول المسيري: «من منظور نفعي مادي هذه السيدة قد أضاعت وقتها وكانت لابد أن تحتفظ بآليات البقاء وحسب.
وأما الفن والجمال الذي يعبر عن أشياء غير مادية فهذا ضياع. لأن الذي يؤمن أن الإنسان ليس بمادة وحسب وإنما مادة وشيء آخر لوجد أن هذا الفن والجمال لصيق بإنسانيتها وأنها بدون هذا ليست «إنسان»، بمعنى أن الجانب الإنساني في ذاتها جعلها لا تكتفي فقط بالصيد والأكل والنجاة، وإنما تجاوزت حدود البرنامج المادي، وصنعت فن يعبر عن ذاتها وهويتها، وهو أيضاً دليل إنسانيتها.
كل من أضاع وقته بإبداع أيّ شكل من أشكال الفنون التعبيرية ساهم في حفظ تاريخ البشرية، فالفن قديم قدم الإنسان، وقبل التاريخ المدون كتابياً، وحتى قبل الفراعنة والإغريق، فمثلاً الحضارة البابلية، 18 قرناً قبل الميلاد، كانوا يعبرون عن أساطيرهم ومصاعب حياتهم العادية وهمومهم ومخاوفهم من الموت وما يأتي بعده عبر الرسوم والنقوش والرموز التي لازالت محفوظة على أنقاض جدران المباني القديمة.
فكيف أضاعوا أوقاتهم وحياتهم في نحت ورسم النقوش بإتقان شديد لدرجة انها لا تزال حية بمعانيها وبالإمكان إدراك دلالاتها رغم مرور أربعة آلاف سنة.؟.
يقدم الفنان السوري عفيف البهنسي رؤية عميقة جداً في هذه المسألة حيث يقول :» إن قول الرسول لا تدخل الملائكة بيتاً فيه تصاوير أو كلاب، أي أن الروح العربية تعاف تلك الطرز والأشكال الغريبة التي كانت تستورد على شكل تماثيل أو صور مطبوعة على أقمشة وستور».. حيث كانت الفنون مستوردة من الشام واليمن ومنحوتات رومانية تحمل معاني تدل على الآلهة عبر رسم صور أجساد ذات أجنحة ويستخدمها الناس كطلاسم، ورقي، يتباركون فيها، لذا كان موقف الرسول معادياً للصور ذات المفاهيم الوثنية والغريبة على جوهر التوحيد.
واليوم مع عودة الروح الإبداعية، والحس العالي بأهمية الفن، أتمنى عدم الاعتماد على استراد الفن، والتركيز على إنتاج الإبداع الحقيقي، عبر العودة إلى الذات، والعمل بتعب وصرامة في كل مجالات الفنون أكثر حتى ننتج من هويتنا وتاريخنا ولغتنا ما يمكن أن يترك الأثر؛ والمعاني الدالة على أننا كنا يوماً ما هنا.
** **
- حسن الحجيلي