م. بدر بن ناصر الحمدان
شاركت قبل فترة في ورشة عمل لمناقشة مشروع عمراني لصالح أحد القطاعات بصفتي متخصصاً في التخطيط والتصميم العمراني، وكان أغلب الحضور على مستوى كبير من الخبرة والتجربة كل في حقل عمله ومساره العلمي والعملي، عرض المشروع كان مُبهراً من ناحية الإخراج والتصميم والمؤثِّرات المرئية، إلا أنه كان يفتقد لكثير من المعايير والأسس المهنية التي عادةً ما تمثِّل المرجع في إعداد مثل هذه المشاريع والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال لأي خبير أو ممارس في إدارة المدن أن يتجاوزها مهما كانت المبررات، باعتبار أن ذلك جزء لا يتجزأ من «أخلاقيات المهنة».
مهندسة صغيرة في السن، أجزم أن تجربتها العملية لم تُكمل بضعة أشهر، كانت هي من قدَّم المشروع الذي قام بإعداده أحد المكاتب الاستشارية «التجارية»، عندما انتهى العرض وجاء وقت المناقشة، طلبت الحديث وأوضحت فيه أن هذا المشروع لن يرى النور لأنه -وبكل بساطة- لم يتبّع الأسلوب الأمثل في بناء الفكرة الأساسية واختيار البديل المناسب، كما أهمل دراسة الوضع الراهن، وتجاهل وبشكل واضح تحليل سلوكيات واحتياجات المستخدم النهائي، بالإضافة إلى أنه لم يعتمد على منهجية عملية واضحة، ولم يتضمن نموذجاً تنفيذياً يمكّن من نقل مسارات هذا المشروع إلى أرض الواقع، حيث إن عدم أخذ هذه المراحل في الاعتبار كان سبباً رئيساً في فشل العديد من المشاريع وبقائها حبيسة الأدراج، وأصبحت مجرد مشاريع على ورق، ولم يتجاوز تأثيرها سوى كونها «فقاعات» للإبهار والاستهلاك الإعلامي لا أكثر، بل تحوّلت لاحقاً لأن تكون أحد منافذ الهدر للمال العام دون الاستفادة منها.
بعد أن أنهيت مداخلتي، قامت هذه المهندسة الشابة بالتعليق على ما ذكرت - بكل سطحية - بما نصه: «بليز يا جماعة أرجوكم الآراء اللي من الـ أولدسكول ما نبغى توقف انطلاقة المشروع..!»، وكأنها تصفني وجيلي من المتخصصين الذين خاضوا تجاربهم طوال عشرين سنة مرت بأنهم باتوا «مدرسة قديمة»، ولا يجب الأخذ بآرائهم وأقوالهم.
حينها استنتجت أن قبولي لمثل هذه الدعوة منذ البداية كان قراراً خاطئاً وآثرت أن لا أخوض في جدال «عقيم» معها ليقيني أنه سيكون مضيعة للوقت، ولإيماني أن من في الحضور من المتخصصين سيتولى هذه المهمة، واكتفيت بقولي لها: «ستكبرين يوماً، وحينها ستفهمين ما كنت أقول»، وغادرت القاعة في تعبير رافض لمستوى الحوار القائم.
ما أود قوله، إنه مثل ما مُكِّنا نحن في بداياتنا العملية، فنحن أحرص على تمكين فئة الشباب من قيادة التغيير، فهذا هو النموذج الذي تنتهجه كبرى المنظمات على مستوى العالم، ولكن هذا يحدث بعد أن يتم تأهيلهم وصقلهم وإكسابهم المعرفة اللازمة من خلال ممارسة عملية فعلية تمكنهم من بناء الخبرة «مهنياً» من الميدان بشكل تراكمي ممنهج كمتطلب رئيس للإشراف على مثل هذه المشاريع الكبيرة والتي لا تقبل أبداً المخاطرة بنتائجها، أما الزج بهم مباشرة وتكليفهم بمهام إشرافية وقيادية عليا تفوق قدراتهم وهم يفتقدون لأبجديات المهنة فهذه مغامرة كبيرة وغير محسوبة.
اكتساب المعرفة لها ثمنها من الجهد والبذل والعمل والتعلم من الآخرين، فالخبرة لا تُباع في المتاجر.