د. محمد بن إبراهيم الملحم
لكي يكون هذا السؤال دقيقاً سأقول: هل نحتاج لأن نقيّم التعليم لنقول عنه إنه بخير؟ الإجابة تتطلب مقدمة مهمة حتى لا يفهم السياق بطريقة خاطئة تخرجه عن ما هو معقول في التخصص، فتقييم التعليم مسألة مهمة، ولكن لماذا يتم عمله؟ الجواب المهني هو لكي نتعرف على نقاط الضعف ونقاط القوة، وهذا صحيح وينبغي أن نشير إلى أن من يفعله هو فئتان: النظام التعليمي القوي والمتوسط (أو من كان دونه قليلا)، فبدون خارطة الطريق لن يعرف المطورون من أين يبدأون وفي أية جهة يركزون، فالنظام القوي يؤكد بالتقييم مواطن قوته ليعمل على صيانتها من الضعف والمواطن التي لم تشبع طموحه سيرتقي بها، وسبب الحاجة إلى التقييم الكمي أن كل شيء هنا في درجة من الرضا، كما ينطبق ذلك (نسبيا) على النظام التعليمي المتوسط، ولكن النظام التعليمي الضعيف أو الذي يشكو من علل كثيرة وآثاره في المجتمع والاقتصاد متواضعة هل يحتاج إلى قياس لنكتشف أين مكمن الخلل فيه؟ الجواب هو لا في الغالب لأن مثل هذه الحالة «المؤلمة» تكون فيها العلامات المرضية ظاهرة مشاهدة بالعين المجردة وليست مثل الحالات الأخرى التي لا تظهرها إلا الأشعة السينية أو أجهزة السونار.
أقول هذا في الوقت الذي شاهدنا فيه نوعاً من المساجلة اللطيفة بين مؤسستين تعليميتين حول تقييم التعليم، بينما الأمر لا يحتاج ذلك كله في الأصل، فلو جمعنا ألفا من المطلعين على التعليم والمتعاملين معه وطلبنا من كل منهم أن يكتب في ورقة أين مشكلة التعليم لاتفق أغلبهم على نقاط معروفة مشهودة (بالمناسبة ربما تتفقون معي أن جمع ألف شخص بهذه الطريقة أقل تكلفة من الاختبارات) وأظن بعضكم تدور في ذهنه بعض هذه الجوانب: سيحدثونا عن المعلم الذي لا يتقن مادته العلمية، والمعلم الذي لا يحسن التصرف في الفصل سواء في ضبط طلابه أو في تقديم مادته بطريقة مقنعة، وسيحدثونا عن المدرسة غير المهيأة مبنى وتجهيزات، وفي المقابل المدرسة المهيأة بتجهيزات ووسائل تعليم لا يستخدمها المعلمون! والمدير الذي لا يحب مهنته ولا يعرف كيف يسوس مدرسته والمشرف التربوي المتعلق بالشكليات وسطحي التفكير، والمسؤول الذي لا يملك أفقاً تربوياً واسعاً أو ربما هو يردد عبارات تربوية رنانة ومحل إعجاب ولكنك لا ترى لها شواهد في تطبيقاته! وسيحدثونا عن المقررات الكثيرة (وسيكررون حرف الراء للتأكيد) والموضوعات المتكررة (وسيكررون الراء مرة أخرى) والمناهج الطويلة والأخطاء والتغيير المستمر وسيتحدثون عن الاختبارات والتقويم المستمر بغصة وحسرة على الماضي المجيد، سيتحدثون بالتأكيد أن الاختبارات تتجنب عادة مسائل وموضوعات محددة لم يتم شرحها أو شرحت شكلياً، سيتحدثون عن أن الطالب يجيب عن الأسئلة ثم يتم إشعاره بالدرجة التي حققها، ولكنه (هو وأهله الذين خلفوه) لن يعلم أين كانت مشكلاته في تلك الورقة لأنها لا تعاد إليه ليتعلم منها.
هذه أمثلة ولديكم الكثير وحتى لو لم يوافقني أحد ما على واحدة من هذه فأجزم أنه وافقني في نفس الوقت على بقيتها! هذا يكاد يكون محل إجماع، فأين الحاجة إلى تقويم تعلم الطلاب لنحكم على جودة الخدمة التعليمية؟ صحيح أن تعلم الطلاب مؤشر جيد ولكن تنطبق عليه علاقة المنطق الرياضي المشهورة (ضروري ولكنه ليس كافياً)، فالأولى أن يتم تقويم المدخلات والعمليات جنباً إلى جنب مع المخرجات، فالمناهج والتدريب «مدخلات» مهمة، والتدريس والإدارة والتوجيه والتقييم «عمليات» مهمة ومصيرية لعافية النظام التعليمي وتقدمه، فكيف يمكن تقييم هذه؟ ومن سيتولى هذا الأمر؟ وكيف سيتم التعامل معه لنعرف (بل لنتأكد فنحن غالباً نعرف) أين بالضبط نبدأ وأين هي أولوياتنا؟ المخرجات «تحصيل الطلاب» أكثر قصوراً كمؤشر من هذه العوامل ذلك أنها يمكن أن تتلون وليست بالضرورة نتيجة هذه المدخلات والعمليات وحدها، فمثلا كيف تحكم على تفوق طالب متميز أن ذلك نتيجة جهود المؤسسة التعليمية (أو على الأقل في أغلبه منها) وليس نتاج الجهد الذاتي من الأسرة بتدريس الوالدين المكثف والدروس الخصوصية والتعلم الإلكتروني ...الخ، صحيح أن الأسرة لها دور على العموم وفي النمط الاعتيادي للحياة التعليمية لأي طالب ولكني أقصد الحالة التي تفقد فيها الأسرة الأمل في المدرسة وتركز الجهد على تدريس أبنائها وتقوية تحصيلهم (وهو يستهلك جهداً كبيراً من الأبوين)، وهذا السيناريو مشاهد كثيراً اليوم، فكيف يمكننا الوثوق في مؤشر المخرجات «وحدها» دون هذا التلون؟ أما تقييم المدخلات والعمليات فهو أكثر صفاء وموثوقية.
جهود هيئة التقويم مشكورة ومحل تقدير وكذلك وزارة التعليم الموقرة والتي تدأب لتحقيق ما يصبوا إليه كل أب وأم، ولكن أملنا أن نرى حلولاً «شمولية» نطمئن إليها لا أن تراوح البرامج في مساحات محدودة هي محل تساؤل منطقي.
** **
- مدير عام تعليم سابقاً