أحياناً نقف حائرين إزاء تصرفات تصدر من أشخاص خلناهم يومًا، في العسر والشدة عونًا على مصائب الدهر, وفي اليسر والرخاء، مصدر بهاء وبِشْر, فإذا بهم كما يقول الشاعر:
«نختصها بالود, وهي على
ما لا نحب, فهكذا الوجدُ!»
تختلط علينا الأمور، ولا نعلم أين يكمن الخلل، أهو في الثقة الزائدة والحب المفرط؟ أم العيب في من أحببناهم ومنحناهم أجملنا، فظنوا أن «كل ما يفعل المليح مليح»!
* حينما تصدم بصديق لا يسعك إلا أن تصمت ببراءة الصغار أو ببلاهة الكبار, تحتاج لأن تقف أمام نافذة مشرعة، وتزفر زفرات من الأعماق في الهواء النقي, علّه ينقّي كدر نفسك, فثمة مساحات موحشة, مقفرة, مغبرّة, تركها من خلته يومًا ربيعًا أخضر, فإذا الأغصان الموّرقة تتعرّى، فلا قلب يواسيك، ولا كف تلامس وجنتك الحرّى, عندها تود لو تقول له كما قال امرؤ القيس:
وإن تك قد ساءتك مني خليقة
فسلّي ثيابي من ثيابك تنسلِ
أو تجلس تردد بحسرة:
«تروغ إلى الواشين فيّ، وإن لي
لأذنًا بها عن كل واشية وقرُ»
* الجميل أنك حين تعود للصديق الذي لا يملّك حتى تملّه، ولا يتركك حتى تتركه، تتأكد بأنه فعلاً خير جليس وأنيس (الكتاب)، حيث تجد حلولاً وتفسيرًا لكثير من ألغاز الحياة، وأسرار الأشخاص, فتعزي نفسك من خلال تجارب الآخرين، وتهون مصيبتك، بل قد تتلاشى ولا تذهب نفسك عليها حسرات.
قرأت في رواية: «.... وآخر أصبح عدوك لفرط ما أحسنت إليه، ثمة خدمات كبيرة إلى الحد الذي لا يمكن الرد عليها بغير نكران الجميل، ولذا لا بد أن تعذر من تنكر لك، ماذا تستطيع ضد النفس البشرية؟»
سبحان الله..
وجاء في رواية شكسبير (يوليس قيصر): «عرف قيصر أن قاتله هو صديقه، وصنيعةُ إحسانه, ففترت همّته، وعجز عن المقاومة، لأن الطعنة التي أصابته في جسمه، لم تكن أقل من الطعنة التي أصابته في قلبه، ولم يكن منظر المِدى والخناجر أبشع في نظرة من منظر الخيانة والغدر، هنالك عجز قيصر عن أن يقول شيئًا غير الكلمة التي ودّع بها قاتله الوداع الأخير: «وأنت أيضا يا بروتس»!»
وتوافق عبارة قيصر, قول القصيبي في الصاحب إذ يقول:
يا صاحبي!
لكنني طُعِنت
من جانبي طُعِنت
من مأمني طُعِنت
أواه ! ... حتى أنت؟!
أواه ! ... حتى أنت؟
- وما أجمل قول المتنبي في صديق نقم منه جفوته، إذ حال عن مودته، وشعر منه بشيء ينكره، فقال:
إذا صديق نكرت جانبهُ
لم تُعيِني في فراقه الحيِلُ
في سعة الخافقين مُضطربٌ
وفي بلاد من أختها بدلُ
- وهذا أبو فراس الحمداني يتوافق رأيه مع المتنبي، إذ يقول:
إذا لم أجد في بلدة ما أريده
فعندي لأخرى، عزمةٌ وذهابُ
إذا الخل لم يهجرك إلا ملالة
فليس له إلا الفراق عتابُ
- هذه دعوة لقضاء أوقات ماتعة مع روائع الأدب، وأمهات الكتب.
وأخيراً أقول: حينما تأنف الناس، أعشق الكتاب.
آخر الكلام:
«فإن تدنُ مني، تدنُ منك مودتي
وإن تنأ عني، تلقني عنكَ نائيا».
للإمام الشافعي.
** **
- نورا العلي