د. خيرية السقاف
في الوقت الذي تيسَّرت للدارسين سبل الاكتساب, وتنوَّعت بين أيديهم مضامين المنشور, وتعدَّدت بيسر لهم مظان الأخذ, واتسع لهم الخيار بين الوسائل فإنهم أقل اكتساباً من أولئك الذين كانوا يتلقون خبراتهم المعرفية, ومعلوماتهم العلمية, وقيمهم الأساس, ويتعرَّفون المفاهيم المختلفة, ويبلغون العموم, والخصوص فيما يتلقون, ممن يُعلِّمونهم بما يصهر مواهبهم, ويصقل ملكاتهم, ويمنحهم فرص النبوغ, وقدرات العطاء, ويمكِّنهم من أن يأخذوا بمهارة من كل علم بطرف, وهذا الطرف ثقيل في الميزان, شاسع في المدى, بعيد في السعة..
فالمعلِّم كان موسوعة, وذا تأثير, والمتعلِّم كان ذا رغبة, وشغف, لأن الهدف كان الثراء بالاكتساب, والتمكّن بالامتلاء, والدأب الذاتي, فالمرء بما يخبر, والخبرات سلوك, وفعل, وأثر..
حينها لم يتجزأ العلم, ولم تنحصر خبرات المعارف في زوايا مبتسرة, وضيِّقة من العلوم بحجة الاختصاص! كما لم تُخذل, ولم تفتر الهمم في التعلّم, بالسهر والدربة والشغف والترحّل,
والسعي الحثيث للمعرفة حيث تكون, ولو في البعيد, والأقصى, وإن تعثَّرت السبل, ونأى الفرد عن الأهل, والدار..
«التعلّم» حينذاك كان هدفاً, وغايةً, وهمَّةً, وإقبالا, و»المعلِّم» كان منارة يقصدها «المتعلِّم» في الحل, والترحال..
تُرى أيمكن أن نصدِّق بأن هذا العصر بكل ما فيه هو عصر الجهل العام؟
وأن «التعليم» ضيِّق المجال, محصور الخطى, يهدر بما لا يُسمن,
يمنح بما لا يدوم, وتدور دواليبه بما لا ينمو, فلا يثمر..
وأن «المتعلِّمين» فارغون
لا يجيدون إلا «فك الحروف», وليس تركيبها, ونقض بنائها, لا سلامته!
فاترة هممهم, شحيحة مواردهم, ضحلة خزائنهم؟!..
إنه زمن الكثرة, والغوغاء, وهدير الكلام,
والمعرفة بالعناوين, ورؤوس الكلمات, لا بالمضامين, وسعة الأبعاد..
إلا لمن اجتهد, فسعى لنفسه سعياً حثيثاً, وكافح مغريات العصر, وشواغله
تلك التي أوهنت في الإنسان أجمل ما فيه, وسلبته أقوى مقدراته..
وجمّلت له ألوان الطيف, وشغلته ببروق سراب..
فانعكس هذا على التعليم, والتعلّم بين ناشئة القوم, ومن ثمَّ............!!..