د.عبدالله مناع
لم ينس العرب جميعًا و(العراقيون) في مقدمتهم.. ذلك المؤتمر الدولي في حضوره، والقومي الفريد في فكرته وبواعثه، الذي استضافته دولة (الكويت) الشقيقة لـ(إعمار) العراق - دولة العدوان عليه واحتلاله -! بين الثاني عشر إلى الرابع عشر من شهر فبراير عام 201م، وشاركت فيه سبعون دولة وثلاثون منظمة دولية وخمس وعشرون منظمة عراقية وخمس عشرة منظمة كويتية.. دون حضور الولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا! أما «بريطانيا» دولة تأييد ذلك العدوان الأمريكي على العراق في شهر مارس من عام 2003م فقد حضرت مؤتمر الإعمار هذا، وأسهمت فيه إسهامًا تعويضيًا لافتًا.. عندما اعتمدت له عشرة مليارات دولار من خزينتها، وكأنها أرادت بذلك الإسهام الضخم - الذي احتل المرتبة الأولى بين مساهمات الدول المساهمة في (الإعمار) - «التكفير» عن جريمة مساندتها وتأييدها للعدوان الأمريكي على (العراق) واحتلاله لتسع سنوات، أو التكفير عن «كذبة» رئيس وزرائها آنذاك: «توني بلير» بـ(أن أسلحة الدمار الشامل التي يملكها «صدام حسين» يمكن لها أن تدمر «بريطانيا» في خمس وأربعين دقيقة).. ليبلغ إجمالي مساهمات الدول والمنظمات في ذلك المؤتمر: ثمانية وثمانون مليار دولار.. كما صرح بذلك وزير التخطيط العراقي السيد أحمد الجبيلي في نهاية المؤتمر...!
كان طبيعيًا أن ينتظر العراقيون بعد انفضاض المؤتمر بضعة أسابيع أو عدة أشهر.. حتى تصل تلك المليارات إلى خزينة الدولة العراقية في «بغداد».. ليبدأ مع وصولها مشوار «الإعمار» و«التعمير»، وقد انتظر العراقيون فعلاً ليس لعدة أسابيع أو أشهر.. بل حتى اكتمل عام 2018م بشهوره العشر.. من شهر فبراير إلى شهر ديسمبر - دون أن يروا شيئًا من الإعمار أو التعمير على أرض الواقع العراقي، وفي مدنه وبين محافظاته، بل ظل مليون ونصف مليون عراقي، الذين هدم (العدوان الأمريكي) منازلهم وشردهم.. على حالهم وبين بيوت الأصدقاء والمعارف التي لجؤوا إليها لتأويهم.. بينما ظلت خدمات الكهرباء والماء والهاتف في أدني مستوياتها، ليأتي العام الجديد (2019م)، وتمضى شهوره الأولى دون أن يحدث ما كانوا يتوقعونه وينتظرونه وقد توفرت أموال (الإعمار) بعد مؤتمر (الكويت).. في بلد لا تنقصه العقول أو السواعد وقد تكامل بناؤه السياسي ديموقراطيًا: فهناك رئاسة منتخبة للجمهورية، ورئاسة أغلبية للوزراء، ورئاسة منتخبة لبرلمانها التعددي الجديد.. ولكن ظل الحال كما كان عليه فلم يتحول العراق إلى ورشة عمل كبرى.. لإعماره وتعميره وإعادة بنيته التحتية، التي فقدها بفضل العدوان الأمريكي عليه واحتلاله لتسع سنوات، التي جعلت منه كما قال بعض المعلقين: دولة من دول القرن الثامن عشر!
ولكن.. لأنه (العراق) وريث حضارة «حامورابى».. ومحجة الشعر والشعراء.. وبلد الثقافة والمثقفين، الذي اجتمع رأي العرب حوله.. عندما قالوا بـ(إن مصر تكتب، ولبنان تطبع، والعراق يقرأ).. كان العراقيون يتابعون ما يجري على الساحة الدولية والعربية من حولهم ساعة بساعة.. لتفاجئهم تلك (المظاهرات اللبنانية) في الثاني من شهر أكتوبر الماضي، وقد ملأت (ساحة رياض الصلح) في قلب العاصمة اللبنانية «بيروت» وهي تطالب بـ(إزالة الطبقة الحاكمة) التي توارثت المناصب، وتقاسمت الثروات، و(إسقاط الحكومة) و(محاربة الفساد) ورموزه الذين أكلوا خيرات لبنان وتركوا أهله جياعًا!! ليتساءل العراقيون: إذا كان لبنان بـ(صغره) ومحدودية إمكاناته قد خرج ثائرًا على أوضاعه المتردية.. فما الذي يمنع العراقيون بأرضهم الواسعة، ونهريه العظيمين (دجلة والفرات)، ونخيله، و(نفطه).. من أن يثوروا على أوضاعه الأكثر ترديًا من أوضاع لبنان...؟ لتنطلق - في السابع عشر من شهر أكتوبر الماضي - إلى (ساحة التحرير) في قلب العاصمة العراقية «بغداد» طلائع مظاهرات عراقية وطنية لا مذهبية فيها.. سرعان ما أصبحت مددًا بلا عدد!
كانت المظاهرات العراقية.. تطالب بـ(إسقاط) الحكومة المنتخبة ديموقراطيًا، التي ثبت فشلها في الارتقاء بالخدمات اليومية كـ»الكهرباء» والماء والهاتف.. بل وفي الخدمات الأهم كـ(الإسكان) والصحة والتعليم وفي ذاكرتهم مؤتمر إعمار الكويت و(بلايينه).. فكان أن ارتبكت الحكومة برئاساتها الثلاث: الجمهورية والوزراء والبرلمان.. وأخذت تعالج وجود المتظاهرين في (ساحة التحرير) ليس بتلبية مطالبهم بـ (استقالة الحكومة) ولكن بفرق (مكافحة الشغب) وبالغاز المسيل للدموع والهراوات والاعتقالات لتفريق المتظاهرين، ثم أخذت تطور أدوات فرق مكافحة الشغب.. على استخدام الرصاص الحي! ليسقط القتلى والجرحى من المتظاهرين تحت وابلها.. ومع ذلك بقي رئيس الحكومة (عادل عبدالمهدي) في مكانه هو وحكومته...!
ومع ضغط المظاهرات واتساع أعداد المتظاهرين.. ظهر الرئيس (عبدالمهدي)، ليقول: إنه مستعد للاستقالة في حالة إيجاد (البديل) له! وهي «تكة» غير ديموقراطية.. وغير دستورية.. وتحمل على (الريبة) فيه وفي حكومته أمام ذاكرة العراقيين التي ما زالت تتساءل: أين ذهبت تلك المليارات من المؤتمر، فليس من مسؤوليات رئيس الوزراء (المستقيل) أن يجد بديلاً له، ولكنها.. مسؤولية رئيس الجمهورية - في النظم الرئاسية - عند قبوله (استقالة) رئيس وزرائه: تكليف رئيس الحزب (الثاني) في الأغلبية الانتخابية الأخيرة أو أي شخصية سياسية أخرى قادرة على تشكيل أغلبية برلمانية تعطيه حق التكليف بتشكيل (الوزارة)، أما في النظم البرلمانية فإن قبول استقالة رئيس الوزراء.. هي مسؤولية مشتركة بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان، فإذا اتفقا على قبول استقالة رئيس الوزراء.. فإن على رئيس الجمهورية أن يطلب من (الهيئة البرلمانية) ترشيح (البديل) له.. حتى يجرى تكليفه من قبل رئاسة الجمهورية مع تأييد رئيس البرلمان لهذا التكليف.
ولكن.. ولأن رئيس الوزراء لم يقدم استقالته واكتفى بإعلان استعداده لذلك.. فقد بقي المشهد السياسي العراقي جامدًا يراوح في مكانه: المتظاهرون في ساحة التحرير مع تزايد أعداد الجرحى والقتلى بينهم.. والحكومة ورئيسها في مقاعدهم.. إلى يومنا هذا.!
لكن تطورًا سياسيًا (إيجابيًا) - في جانب من جوانبه - ظهر بين المتظاهرين في الأيام القليلة الماضية.. عندما أخذ عدد منهم في اقتحام مبنى (القنصلية) الإيرانية في (كربلاء).. حيث تسلقوا مبناها، وقاموا بإنزال العلم الإيراني من على ساريته، ورفع العلم العراقي في مكانه.. وهو وإن كان تصرفًا عفويًا.. إلا أنه يحمل دلالات الضجر والنفور من النفوذ الإيراني المتنامي في العراق.. الذي أوشك أن يضيع معه (استقلال) العراق، الذي قامت من أجل تحقيقه ثورة الرابع عشر من يوليو من عام 1958م، بإزاحة كل من (عبدالاله) و(نوري السعيد)، وإزالة (حلف بغداد)، ومعه النفوذ البريطاني.. إلى الأبد!!
لكأن المتظاهرين العراقيين أرادوا بـ(بتصرفهم) العفوي.. هذا أن يقولوا لـ(إيران).. أمعقول بعد واحد وستين عامًا من استقلال العراق الحديث - أن نفرط فيه، وهو الذي كان وما يزال رمز عزتنا؟ أو أن نستبدل نفوذًا (بريطانيًا)، رفضناه بـ(نفوذ إيراني) لن نقبله؟!
إن علاقة (حسن الجوار) مع (إيران) مطلوبة.. فالعراق وإيران دولتان يُقَرِّب -ولا يفصل بينهما-: شط العرب.. إلا أن التماثل المذهبي بين الإيرانيين والأغلبية الشيعية العراقية المسلمة - لا تعطى شرعية لـ(هيمنة) إحداهما على الأخرى، ولذلك فإن ما فعله بعض المتظاهرين في «كربلاء» لا يعبر عن عداء لإيران.. ولكنه كان دفاعًا عن (استقلال العراق)، الذي بات مهددًا.. في ظل حكومته الحالية الديموقراطية الأحدث!