الأمير الدكتور عبد العزيز بن عياف
يتميَّز القطاع البلدي بصفةٍ عامَّةٍ بأنَّه قطاعٌ متعدِّد الخدمات وذو أهميَّةٍ واتِّصالٍ وتماسٍّ مباشر ويومي بحياة السُّكان وبجودة معيشتهم وتفاعلهم مع محيطهم الاجتماعيِّ وفضائهم العمراني. كما يتميَّز القطاع البلدي وإدارته بأربعة جوانب مهمَّة: الأوَّل هو أسلوب عمله وهيكله التنظيمي المبني على مبدأ اللامركزية الإدارية والاستقلاليَّة الماليَّة (نظريَّاً على الأقل)، والثَّاني شموليَّة تواجده الجغرافي في جميع مناطق ومحافظات ومدن المملكة بالإضافة إلى تواجده الميداني المصاحب. والثَّالث انفراده بفتح المجال للمشاركة العامَّة في اتِّخاذ القرار من خلال آليَّات مؤسَّسةٍ ومنظَّمةٍ في مجالس بلديَّةٍ نصف أعضائها بالانتخاب. أمَّا الرَّابع والذي قد تختصُّ به مدينة الرِّياض من حيث البدء والحجم وآليَّة التطبيق فهو إنشاء وكالةٍ للخدمات النِّسائيَّة تدار بطاقمٍ نسائيٍّ يفوق عدده الستمائة موظَّفةٍ من الكوادر الوطنيَّة المؤهَّلة والمدرَّبة. وتعمل كلُّ هذه الجوانب لصالح تميُّز القطاع البلدي وتعظِّم أهميَّة الالتفات لتطويره والنهوض به.
ينصبُّ تركيزي هنا على ما قامت به أمانة منطقة الرِّياض خلال فترتي أميناً لها بين عامي 1418هـ - 1433هـ (1997م - 2012م) من مبادرات وبرامج ومشاريع وخططٍ تطويريَّةٍ كثيرةٍ بعضها ذكرته في كتابي «تعزيز البعد الإنساني» أو في بعض المقالات، وبعضها سيأتي في مقالاتٍ وكتبٍ مستقبليَّةٍ أخرى بإذن الله. تطلَّب انطلاق تلك المبادرات والبرامج والمشاريع وضمان نجاحها واستمرارها ضرورة وضع تصوُّرٍ كاملٍ للأهداف والخطط التي تتضمَّن الآليَّات لتحقيق هذه الأهداف كما يتضمَّن تكوين فرق العمل المتحمِّسة والتي تعتبر شريكاً أساسيَّاً، بالإضافة إلى الشراكة مع النَّاس لكونهم المستفيد الأول منها، وأيضاً الشراكة مع القطاعات العامَّة والخاصَّة. ولا أذكر المبادرات والبرامج والمشاريع كشهادة إنجاز للأمانة أو للقائمين عليها بل للتأكيد على أنَّ ذلك كان يمثِّل بذرةً مستقبليَّةً ونزراً يسيراً لما يمكن أن يتمَّ لو كانت الإدارة المحليَّة هي النموذج والأسلوب المعمول به في إدارة العمل البلدي.
محاولاتٍ الأمانة لمحاكاة نهج الإدارة المحليَّة -الذي لم يكن موجودا بشكلٍ رسميٍّ وإنَّما بشكلٍ افتراضي- كانت مدعومةً من خادم الحرمين الشَّريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله، أمير منطقة الرِّياض آنذاك في رسالةٍ إيجابيَّة وواضحةٍ بأنَّ القطاع البلدي بإمكانه عمل الكثير والوصول إلى مستويات طموحات السُّكان العالية بل والانطلاق بشكلٍ أرحب وأوسع لفضاءاتٍ بلديَّةٍ أخرى متعدِّدة. وقد كان أشبه ما يكون بالسَّبق لتعلِّيق الجرس بالمطالبة بضرورة التغيير في آليَّة العمل البلديِّ خاصةً وأنَّ كثيراً ممَّا قامت به الأمانة من مبادراتٍ كان في وقتها ليس من ضمن أجندات وبنود عمل البلديَّات المعتادة بصفةٍ عامَّة.
أذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر أنَّ مشروع إعادة إحياء وادي السلي -خاصَّةً ذلك الجزء الواقع داخل المدينة- وإعادة طرحه على خارطة الرِّياض الجغرافيَّة والبيئيَّة بعد أن اندثر وطواه النسيان تحت الشوارع والجسور والمباني لم يكن ليكون لولا توفيق الله ثم مبادرة الأمانة في ظلِّ دعم أمير المنطقة. ومثل ذلك احتفالات العيد والمناسبات الوطنيَّة، والسَّاحات البلديَّة وواحات الملك سلمان للعلوم في الأحياء السكنيَّة، والحدائق المفتوحة والحدائق المليونيَّة، وكذلك تمكُّن الأمانة آنذاك من إصدار الرخص الفورية للبناء، وإعادة هيكلة مفهوم عقود النظافة وانتقالها إلى اللامركزيَّة والتعدُّديَّة في العقود بدلاً من عقدٍ وحيد، والتغيير الهيكليِّ والجذريِّ لشركةٍ مثل شركة المعيقليَّة، أو بروز الكثير من المخطَّطات ذات التَّخطيط الشَّامل مثل مخطَّط القصر، أو ازدهار وتنوع برامج ومبادرات الأنسنة، وكذلك ما تمكَّنت منه الأمانة من إعادة ترسيم الحدود الجغرافيَّة للبلديَّات الفرعيَّة وتوحيد النِّطاق الخدمي بين الجهات الخدميَّة المتعدِّدة وبناء المراكز الإداريِّة في نطاق كلِّ بلديَّةٍ فرعيَّة، أو حتَّى ارتفاع مستوى رضا السُّكَّان عن الخدمات البلديَّة. ولم يكن كلُّ ذلك ليتم لولا محاولة الأمانة الجادَّة والحثيثة لمحاكاة نهج الإدارة المحليَّة والمدعوم بوقفات وصلاحيَّات سموِّ أمير المنطقة آنذاك. والسؤال المهمُّ هنا كيف يمكن لنا أن نتصوَّر المشهد البلديَّ لواقع مدننا لو أنَّنا بالفعل تبنَّينا نهج الإدارة المحليَّة رسميَّاً ومؤسَّسيَّاً وأصبح واقعاً لإدارة مدننا وتنميتها.
الإجابة وباختصارٍ واضحةٌ جدَّاً؛ فأمانة الرِّياض وبمجرد محاكاتها لنهج الإدارة المحليَّة استطاعت رغم العوائق الكثيرة أن تتغلَّب على جزءٍ من واقعها وتتجاوز مثيلاتها في القطاع البلدي. وما تمَّ ذكره من أمثلةٍ أعلاه هي مختاراتٌ من بعض نماذج وجزُر نجاح أثبتت الأمانة من خلالها أنَّ قطاع البلديَّات قادرٌ على الإنجاز المتميِّز وعلى الطَّرح المتجدِّد للمبادرات النَّوعيَّة. كما رفعت في نفس الوقت صوتها بضرورة تغيير أسلوب العمل الإداريِّ والماليِّ في القطاع البلديِّ والإسراع بتبنِّي الإدارة المحليَّة في مدننا لتتمكَّن البلديَّات من القيام بأعمالها بما يتواكب مع المتطلَّبات المتزايدة والمتنوِّعة وأيضاً المتغيِّرة لسكَّان المدن في المملكة، ولتوفِّر مجالاً أرحب للبلديَّات وإدارات المدن للانطلاق إلى مزيدٍ من مثل تلك المبادرات والبرامج والمشاريع التي أصبحت ضرورةً وليست خياراً للنُّهوض بواقع المدن السُّعوديَّة.
والحقيقة أنَّ ذلك لا يمكن أن يتأتَّى إلاَّ بالتفكير خارج الصندوق وبعيداً عن رادار الفكر البلديِّ التقليديِّ السَّائد. وذلك بتفعيلٍ صادقٍ وحثيثٍ للاستقلاليَّة الماليَّة والإداريَّة للبلديَّات وبما يسمح لها بإدارة مواردها وتشجيعها على زيادة استثماراتها وبما يضمن عدم المساس بالمواطن مباشرة؛ والقنوات لذلك كثيرة. أيضاً تحتاج المجالس البلديَّة لوقفةٍ صادقةٍ لدعمها والذَّود عنها وتسهيل أمرها وتمكينها من ممارسة المشاركة العامَّة الحقيقيّة في القرار البلدي، فهي، وبعكس ما ينظر لها بعض العاملين في البلديَّات، تعتبر بحقٍّ -في حال تمَّ تفعيلها وتطويرها- دعامةً أساسيَّةً للعمل البلديِّ وثروةً متميِّزةً ومصدر قوَّةٍ نوعيَّة لا يمتلكها غيرهم من العاملين في القطاعات الخدميَّة الأخرى.
كانت تجربة أمانة منطقة الرِّياض في تلك البرامج والمشاريع رحلةً شاقَّة، لكنَّها كانت رحلةً سعيدةً لي وللعاملين داخل الأمانة ولكثيرٍ من الشركاء خارجها. والرِّحلة طويلةٌ ومستمرَّة، والعمل لم ينتهِ، وعلى الرُّغم من الإنجازات فالمتبقِّي أفضل.. وأكثر.. وأجمل، وتجربتنا أثبتت أنَّه بالإمكان الاستمرار في هذا الجانب دون توقُّف، فهناك مبادراتٌ كثيرةٌ تحتاج إلى تعميمها في مواقع أخرى، ومبادراتٌ في مراحلها الأولى وتحتاج إلى استمراريَّة الدَّعم، ومنها ما يزال أفكاراً على الورق لم تُنفَّذ بعد، وأكثر منها في مذكِّرات بعض أفراد فرق عمل الأمانة. فالقطاع البلديُّ بالعموم وأمانة الرِّياض بالخصوص، بحمد الله، بمن فيها من المسؤولين (رجالاً ونساءً)، ولاَّدةٌ للأفكار والمبادرات التطويريَّة الجديدة. وأصبحت هناك روحٌ جديدةٌ داخل أروقتها؛ روحٌ وثَّابة للمبادرة والاستعداد للتحدِّي من أجل خدمة سكَّان المدينة بما يسعدهم ويهيِّئ لهم الظُّروف الجيدة لحياةٍ أفضل.
لابدَّ من دفعةٍ جديدةٍ لإدارة المدن وللقطاع البلديِّ بوجه الخصوص تعاد فيه هيكلته المؤسَّسيَّة والإداريَّة على أساسٍ من تبنٍّ لنهج الإدارة المحليَّة على مستوى المدن، تتصرَّف فيه البلديَّات باستقلاليَّةٍ ماليَّةٍ وإداريَّةٍ ويشارك السُّكَّان في اتِّخاذ القرارات التَّنمويَّة في مدينتهم مشاركةً صادقةً وحقيقيَّةً عن طريق مجلسٍ بلديٍّ مطوَّرٍ يملك الصَّلاحيَّات لتمكينه للقيام بذلك. أيضاً تكون فيه البلديَّات ممثِّلاً حقيقيَّاً للسُّكَّان في إدارة تنمية مدينتهم واستثمار ممتلكاتها وأصولها واختيار الأسلوب الأنسب في الصَّرف منها وعليها.
هذه مهمةٌ للمستقبل، أُدرِكُ أنَّ في بلادنا كوادر قادرةً على تحقيق مقتضياتها، وستسعى، بحول الله، إلى إنجازها. وسيتطلَّب تحقيقها رسم خطوطٍ عريضةٍ لخارطة طريقٍ ليس للقطاع البلديِّ فقط ولكن لإدارة المناطق والمدن بما فيها من محافظات ومراكز. وسأذكر أدناه بعضاً من خطوطٍ وملامح عامَّةٍ مقترحةٍ يمكن تصوُّرها لخارطة طريقٍ مبدئيَّةٍ وبمستوياتٍ مختلفة:
المستوى الأول
يقع هذا المستوى في دائرة اهتمام ومسئوليَّات القيادة العليا وما تراه أنسب في منظومة التطوير الإداريِّ التي تشهدها المملكة في ظلِّ رؤية المملكة التي يقودها برعاية خادم الحرمين الشَّريفين صاحب السُّموِّ الملكيِّ الأمير محمَّد بن سلمان، وليِّ العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء. ولكن اجتهاداً للمشاركة بالرأي والاقتراح فإن هذا المستوى يمكن أن يشمل خيارين:
الخيار الأول
إعادة ترتيب وزارة الشُّئون البلديَّة والقرويَّة وهيكلتها الإداريَّة والمؤسَّسيَّة مع التَّركيز على ضرورة الاستقلاليَّة الماليَّة والإداريَّة لأمانات المناطق استقلالاً عمليَّاً يمكِّن الأمانات من الانطلاق والمنافسة في أعمالها، وبما يضمن بقاء وزارة البلديَّات بعيدةً عن العمل التنفيذيِّ للأمانات وبما يضمن ترك مجالٍ أوسع وأرحب للأمانات في المجال التَّشريعيِّ ويحترم الفروقات والاختلافات بين المناطق سواءً الاختلافات الجغرافيَّة أو الاقتصاديَّة أو الاجتماعيَّة أو العمرانيَّة وما ينعكس منها بالضَّرورة على أنظمة وشروط البناء ومعايير التَّخطيط العمرانيِّ المحليَّة وكذلك إجراءات الشَّراكات والاستثمارات البلديَّة. وفي هذا الخيار تقتصر المهمَّة الرَّئيسيَّة لوزارة البلديَّات على الإشراف والمراقبة والتَّنسيق وتعزيز ونشر التَّجارب النَّاجحة بين الأمانات، وأن تكون شريكاً معاضداً ومسانداً ومنسَّقاً للأمانات في الجانب التَّشريعي.
الخيار الثاني
دمج وزارة الشُّئون البلديَّة والقرويَّة مع وزارة الدَّاخليَّة (إعادة وزارة البلديَّات تحت مظلَّة وزارة الدَّاخليَّة) وإعادة تسميتها بوزارة الإدارة المحليَّة مثلاً. والمبرِّرات لتأييد ذلك كثيرةٌ خاصَّةً وأنَّ التَّقاطعات بين الوزارتين كبيرةٌ ومتعدِّدة. فوزارة البلديَّات بذاتها وعند تأسيسها كانت قد خرجت من ديوان وزارة الدَّاخليَّة بعد أن كانت إحدى الوكالات الرئيسيَّة فيها. ولا تزال العلاقة متبادلةً ومتشابكةً في أروقة كلا الوزارتين. ومن التَّجربة فإنَّ البلديَّات -وأعني هنا أمانات المدن وأمنائها- لا يمكن أن تعمل دون دعمٍ كاملٍ من أمراء المناطق وانسجامٍ متوافقٍ مع توجُّهات أمارات المناطق والذي يفترض أنَّه يمثِّل توجُّه وزارة الدَّاخليَّة والقيادة العليا حيث أنَّ أمير المنطقة هو ممثِّل الملك في منطقته وهو رئيس مجلس المنطقة. ويظلُّ القطاع البلديُّ مهمَّاً وضروريَّاً للمنطقة ولأميرها، خاصةً وأنَّ الأمانة تعتبر الذِّراع التَّنمويَّة الأساسيَّة في المنطقة ومن الضَّروريِّ أن ترتبط بأمير المنطقة ولا يكفي مجرَّد التَّواصل والتَّنسيق أو الإحاطة بينهما.
إنَّ في دمج الوزارتين خدمةً للطرفين وفيه مصلحةٌ عليا للمنطقة ولمدنها وساكنيها. ويدعم هذا التَّوجُّه ما تمَّ من إعادة هيكلةٍ لوزارة الدَّاخليَّة وتركيزها على إدارة المناطق وما يتبعها من مدنٍ ومحافظات، وهو الأمر الذي سيسهِّل الدَّمج ويدعم أمراء المناطق وأمناء المدن في أعمالهم. وسيتوفَّر لأمير المنطقة ذراعان رئيسيَّان ومهمَّان ولا يمكن له العمل بدونهما، الأولى أمنيَّةٌ بوجود الجهاز الأمنيِّ التَّابع له من شرطةٍ وغيرها من أجهزةٍ أمنيَّة، والثَّانية هي الذِّراع التَّنمويَّة وتمثِّلها الأمانة وبلديَّاتها الفرعيَّة بالإضافة إلى الأجهزة الخدميَّة الأخرى. ويتمِّم هذا الخيار أن تتفرَّغ وزارة الإدارة المحليَّة للإشراف والمراقبة والتَّطوير والتَّنسيق وتترك العمل التَّنفيذيَّ اليوميَّ للإدارات المحليَّة في المناطق ممثَّلةً بأمارات المناطق وبرئاسة أمير المنطقة وأعضاء المجلس المشاركين معه في إدارة المنطقة.
المستوى الثاني
يشمل إعادة تشكيل وتنظيم الهيكل الإداريِّ لأمارات المناطق وتفعيل دور أمير المنطقة كممثِّلٍ للملك في منطقته. وإعادة ترتيب العلاقة مع أمانات المناطق وغيرها من الأجهزة الخدميَّة الأخرى، وكذلك مع الهيئات العليا ومجالس المناطق والمجالس البلدية وغيرها من مجالس المحافظات. ويجب النَّظر إلى أمارات المناطق وتطوير عملها كإدارةٍ محليَّةٍ مستقلَّةٍ ماليَّاً وإداريَّاً ويكون أمير المنطقة على رأس الهرم الإداريِّ وصاحب القرار التنموي في كلِّ ما يتعلَّق بمنطقته يساعده ويشاركه في ذلك مجلسٌ مشابهٌ لما كان عليه مجلس الهيئة العليا لتطوير مدينة الرِّياض سابقاً بعد تطويره ليكون كمجلس وزراء مصغَّرٍ للمنطقة (على أن ترفع مستويات ممثِّلي الأجهزة الخدميَّة مثل التَّعليم والصِّحَّة وغيرها لمستوياتٍ تعادل نوَّاب الوزراء شبيهٍ بما يتمُّ لأمناء المناطق) يشارك في عضويَّته مسؤولي الإدارات الخدميَّة في المنطقة وكذلك بعض الأعضاء المنتخبين من مجالس المنطقة والبلديَّات والمحافظات كممثِّلين مستقلِّين لسكان المنطقة. ويكون للمجلس برئاسة أمير المنطقة الاستقلاليَّة الماليَّة والإداريَّة فيما يخصُّ منطقتهم وتحديد ميزانيَّاتها ومصروفاتها ومصادر إيراداتها بالإضافة لما يخصص لها من وزارة الماليَّة.
المستوى الثالث
يتمُّ في هذا المستوى التَّطوير الشَّامل للهيكل الإداريِّ والمؤسَّسيِّ للقطاع البلديِّ وإعادة هندسة العلاقة بين وزارة البلديَّات ووزارة الإدارة المحلية (حسب الخيارين السَّابقين) وبين أمانات المناطق، وبالمثل بين الأمانات والبلديَّات الفرعيَّة وبما يضمن الاستقلاليَّة الماليَّة والإداريَّة واستقلاليَّة اتِّخاذ القرار ويكون المرجع الرئيسيُّ لهم مجلس الإدارة المحليَّة أو ما يمكن تسميته بمجلس «نواب الوزراء» في المنطقة برئاسة أمير المنطقة. ويعاد النظر في وضع المجالس البلديَّة ومجالس المناطق وعلاقتها بالعمل البلديِّ وبما يمكِّنها من تأدية مهمَّتها باستقلاليَّةٍ ومهنيًّةٍ وبأن تكون رافداً من الرَّوافد الحقيقيَّة للمشاركة العامَّة وأن لا يقتصر دورها على اتِّخاذ القرار في الشَّأن البلديِّ فقط بل ليشمل الإدارات الخدميَّة الأخرى ويكون فاعلاً ومشاركاً في اتِّخاذ وصناعة جميع القرارات التنمويَّة للمدن والمحافظات.
كان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز عندما كان أميراً للرياض داعماً للانتخابات البلديَّة وللمجالس البلديَّة، وكان له يحفظه الله، رأياً سديداً موثَّقاً وسبق أن رفع به للقيادة العليا، يتمثَّل في ضرورة إعادة هيكلة المجالس البلديَّة وبما يضمن شمول نطاق إشرافها ومسؤوليَّاتها لجميع الخدمات في المدينة وأن لا تقتصر فقط على الخدمات البلديَّة.
المستوى الرابع
يتمُّ في هذا المستوى ترتيب ورسم الهياكل المؤسَّسيَّة والحدود الجغرافيَّة وتسلسلها الهرميِّ من المنطقة إلى المحافظات إلى المدن تليها المراكز، فمثلاً منطقة الرِّياض تشمل المنطقة بمختلف محافظاتها الحاليَّة أو في حال تمَّ تقليصها وإعادة ترسيم حدود المنطقة بتأسيس مناطق أخرى، ومدينة الرِّياض يمكن تقسيمها إلى محافظاتٍ متعدِّدةٍ وذلك بتحويل بلديَّاتها الفرعية إلى محافظاتٍ مستقلِّةٍ يرتبط محافظوها بأمير المنطقة ورؤساء بلديَّاتها بأمين المنطقة وتكون المراكز في المستوى التَّالي من المحافظات وترتبط بالمحافظين كما هو معمولٌ به في الوقت الرَّاهن.
يمكن إيجاز ما ذكر أعلاه عن خارطة الطَّريق ومستويات الهيكلة للمؤسَّسات الإداريَّة بالقول بأنَّ النَّظرة هنا تركز على إعطاء المناطق جرعاتٍ من الاستقلاليَّة الماليَّة والإداريَّة ودعمها لتعمل كإدارٍة محليَّةٍ وتخصَّص لها الميزانيَّات ويُترك لأمير المنطقة ومجلس نوَّاب الوزراء التقرير كمجلس إدارةٍ للمنطقة في طريقة توزيع وصرف الميزانيَّات مع إعطائهم كذلك الحريَّة كمجلس لتطوير مصادر إيرادات المنطقة وطرق صرف مواردها، خاصَّةً وأنَّ مناطق المملكة تختلف من حيث الإمكانات والقدرات ولا يمكن التَّعامل معها جميعاً على مستوىً واحد. وسيمكِّن مثل هذا التَّرتيب أمراء المناطق من الانطلاق بمناطقهم في مجالاتٍ تنمويَّةٍ متعدِّدةٍ وسيكونون مع أعضاء مجالسهم أقدر وأسرع في التَّجاوب مع المتطلَّبات المحليَّة للمناطق وسكَّانها واختلاف ظروفها. كما سينقل العبء في التَّخطيط والتَّنفيذ والإشراف على الخطط التَّنمويَّة إلى الإدارات المحليَّة، وستتفرَّغ الوزارات المركزيَّة الخدميَّة للإشراف والمراقبة والتَّطوير ومدِّ يد المساندة لإداراتها وأجهزتها في المناطق.
ختاماً أتمنَّى أن تكون خارطة الطَّريق المقترحة بذرةً لحوارٍ متعمِّقٍ حول مستقبل الإدارة المحليَّة، خصوصاً وأنَّ نهج سلمان بن عبد العزيز الإداري في منطقة الرِّياض كان ولا يزال يمثل أساساتٍ لمنصِّةٍ يمكن الانطلاق منها والبناء عليها لتبني الإدارة المحلية. ويحتاج هذا النَّهج إلى مزيدٍ من التوسُّع والتَّطوير. ومع رؤية المملكة 2030 أصبح الطُّموح أكبر والمستحيل أمكن والبعيد أقرب وعجلة الزَّمن والتَّغيير أسرع بإذن الله. لذلك يحدوني الأمل في أن نستمرَّ في تطوير مسار الإدارة المحليَّة ببوادره النَّاجحة، وأن نتمكَّن وسريعاً من تبنِّي وتعميق مبدأ الإدارة المحليَّة وما تعنيه من تعميق الأواصر بين النَّاس في مناطقهم ومؤسَّساتهم الإداريَّة مما يزيد من إنتاجيَّتهم ويتألق بوطنيَّتهم.