د. محمد عبدالله العوين
كان المسافر من جيل الطيبين إذا ودع أهله وانطلقت به السيارة لا يعلمون عنه شيئاً أياماً أو أسابيع، فإذا غلبه الظن بهيمنة القلق عليهم من طول غيابه طمأنهم بكتابة (خط) أي رسالة يدفعها في يد من يقابله في محطة سيارة الأجرة المتجهة إلى البلدة.
وقد مررت بهذه التجربة المرّة (مع أنني من الجيل المخضرم بين بين) قبل وصول الهاتف إلى حوطة بني تميم قبل عام 1400هـ وكنت في السنوات الأربع السابقة لهذا التاريخ أدرس في الجامعة، وفي البدء كانت زيارتي كل أسبوع، ثم بعد قليل من التكيّف صارت كل أسبوعين، ثم بعد تكيّفي الكامل مع أجواء مدينة الرياض الاجتماعية والثقافية وزيادة معارفي وصداقاتي تحولت الزيارة - مع الأسف - كل ثلاثة أسابيع وأحياناً كل شهر، ولا شك أن ذلك كان تقصيراً مؤلماً؛ لكن هكذا كانت ضغوط الواجبات وازدياد الأعمال والتكليفات مع الدراسة، ولم يكن من وسيلة إلا تحميل من سيذهبون إلى البلدة بالسلام والاطمئنان؛ إما شفوياً أو بكتابة رسالة، والمعاملة بالمثل أيضاً؛ فلدي من أسرتي خطابات عدة يصف فيها كاتبها أخي عبد الرحمن - رحمه الله - أحوال الأسرة والأقرباء والمعارف وما جد في البلدة من أخبار كمشروع جديد كفتح شارع أو زواج أو تعيين مسؤول في دائرة حكومية أو مطر سالت على إثره أودية وشعاب، وهكذا.
وكانت معاناة (الطيبين) أكثر قسوة ومشقة حينما لم تكن الكهرباء متوفرة؛ فلا إنارة، ولا ثلاجة، ولا مكيف؛ بل ولا شبكة توصل المياه إلى المنازل.
كان زمناً صعباً حقاً؛ بيد أنه كان زمناً سعيداً - هكذا يصفه أصحابه - على ما قاسوه من عنت ورهق، وتعليل تلك السعادة التي كانت تغمرهم أنهم تعودوا على ذلك، ولم يجربوا شيئاً من جديد المدنية ومستحدثاتها ثم فقدوه فآلمهم فقده وتحسروا عليه. وهذا الإحساس المؤلم قد يكون موجعاً شديد الوطأة على أبناء هذا الزمان الذين ينعمون برفاهية المخترعات الحديثة وسهولة ويسر الحياة بسببها، فلو فقدوها أو فقدوا شيئاً منها لعاشوا في بؤس وكآبة وتذمر وشكوى وتحسر على قسوة الحياة التي انقلبوا إليها بفقد ما كانوا فيه من نعيم المدنية ورفاهيتها، وأسأل الله تعالى أن يديم علينا الأمن والأمان والرخاء وقوة الدولة ووحدة الوطن وتضامن أبنائه وتماسكهم مع قيادتنا للحفاظ على ما ننعم به من تطور وخيرات ورفاهية.
نحن أبناء هذا الزمان نعيش في رفاهية قد تكون سبباً لكثير من الأمراض؛ بسبب قلة الحركة وطول الجلوس والإفراط في المآكل والمشارب والسهر وإدمان استخدام الكمبيوتر ووسائط التواصل عبر الجوال بما تحمله من انبعاث إشعاعات ونحو ذلك من سلبيات المدنية الحديثة، ومع كل هذه الرفاهية نجد أن من عاش سنوات من زمن الطيبين ثم عاش طفرة الحياة الحديثة يحن إلى مرحلته الأولى الصعبة والشاقة؛ فما سر هذا الحنين يا ترى؟!