اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
تعمدت أن أفرد حديثي اليوم في هذه العجالة عمّا يعانيه لبنان الحبيب، وما يعيشه هذه الأيام من أزمة خانقة، تنذر برياح الشؤم التي طالما اجتاحت هذا البلد الوادع الجميل؛ على أمل أن أجد متسعًا من الوقت للحديث عن بقية الهم العربي الذي أثقل قلوبنا، بل أدماها.
فللبنان، هذا البلد العربي الساحر المسالم الرائع، مكانة خاصة في قلب كل عربي، ولهذا لا بد أن يكون معظمنا قد زاره وتمتع بمناظره الخلابة وطبيعته الساحرة وملأ رئتيه من نسيم بحره الهادئ الجميل؛ وارتاد صوالين الأدب ومسارح الفنون. ولا بد أن يكون القادمون إليه قد شهدوا مع هذا منافع أخرى كالتجارة والعمل، وربَّما طاب لبعضهم المقام فاستوطن فيه واندمج في الحياة الاجتماعية وأصبح جزءًا من أهله.
ومثلما للبنان تلك المكانة الكبيرة في قلوبنا جميعًا، له أيضًا خاصية فريدة من حيث موقعه الجغرافي الوسطي بين الشمال الأوروبي والجنوب العربي والغرب الإفريقي. ولهذا واجه لبنان منذ القدم تعدد الحضارات التي عبرت أراضيه أو احتلتها، فاستقرت فيه، وتبع هذا تنوع شعوبه وتعدد ثقافاته ولغاته، وبالطبع عقيدته وفكره السياسي؛ كما أن اشتراك لبنان مع فلسطين المحتلة عند حدوده الجنوبية فرض عليه واقعًا مريرًا، جعله دولة مواجهة مع الكيان المحتل منذ ظهوره؛ ويعلم كلنا الثمن الباهظ الذي دفعه لبنان نتيجة هذا الواقع المرير.
ومع أن مساحة لبنان تزيد قليلاً عن عشرة آلاف كيلو متر مربع تقريبًا، وعدد سكانه يزيد قليلاً عن أربعة ملايين نسمة، إلا أنه دولة فاعلة، لها حضور مشهود إقليميًا وعالميًا؛ فقد هاجر أهله وانتشروا في كل أنحاء العالم منذ أيام الفينيقيين، وما تزال الهجرة مستمرة حتى اليوم، مع الأسف الشديد.
أجل، يشعر الإنسان بأسف شديد جدًا عندما يرى اللبنانيين يهاجرون شرقًا وغربًا من بلاد يتمنى كل إنسان في الدنيا أن يستوطن فيها؛ حتى ليقال: إن عدد المهاجرين اليوم بلغ ضعف المقيمين فيه.
ومع أن اقتصاد لبنان يعتمد بشكل أساسي على الخدمات السياحية والمصرفية التي تشكل معًا أكثر من (65 في المائة) من مجموع الناتج المحلي، إلا أنه استطاع تحقيق نمو بلغ (9 في المائة) حتى في فترات ركود الاقتصاد العالمي.
أقول، للبنان خاصية فريدة، إِذ يشتهر بنظام تعليم تربوي عريق، يسمح بإنشاء مؤسسات تعليمية من مختلف الثقافات، ويشجع التعليم بلغات مختلفة، وكان لأبنائه دور كبير في إثراء الثقافات العربية والعالمية، لا سيما في مجالات العلوم والفنون والآداب؛ كما كانوا من رواد الصحافة والإعلام في الوطن العربي، بل لمع نجم بعضهم عالميًا. وكلنا يذكر تلك المقولة العريقة الشهيرة: بيروت تكتب، القاهرة تطبع والبقية يقرؤون. ولهذا عرف لبنان بـ(سويسرا الشرق)، كما عرفت عاصمته بـ(باريس الشرق).
نعم، للبنان خاصية فريدة، فهو جمهورية ديمقراطية برلمانية طائفية، تعتمد نظام توزيع السلطات على الطوائف الثماني عشرة الأساسية التي تؤلف معظم نسيجه الاجتماعي، فالكل يدرك أن رئاسة الجمهورية للموارنة ورئاسة الوزراء للسنة ورئاسة مجلس النواب للشيعة. وقد أشعل الخلاف حول توزيع الحقائب الوزارية حربًا أهلية ضروس، تمكنت القيادة السعودية المسكونة دومًا بهم المسلمين والعرب من وضع حد لتلك الحرب الدامية، بعد توفيق الله، من خلال مؤتمر الطائف الشهير عام (1408هـ - 1987م).
أقول، للبنان خاصية فريدة حتى في اسمه الذي قيل فيما قيل إنه مشتق من كلمة (ل ب ن) السَّامية التي تعني (أبيض)، بسبب لون الثلوج التي تكلل جباله الرائعة الجميلة. وقيل إنه مشتق من كلمة (اللبني)، أي شجرة الطيب أو اللبان، أي البخور لطيب رائحة أشجاره وغاباته.. لكن مع الأسف الشديد: طالما تحول هذا اللون الأبيض إلى أحمر قانٍ نتيجة دماء اللبنانيين التي سالت في الشوارع كالأنهار الدَّافقة بسبب الحروب الأهلية والخلافات المذهبية والجهوية؛ وطالما تحولت رائحة الطيب تلك إلى رائجة منتنة نتيجة الجثث المتفحمة بسبب تلك الحروب الأهلية العبثية التي تشعل فتيلها أجندات خارجية، لكن مع الأسف الشديد أيضًا بأصابع بعض أبناء اللبنانيين الذين باعوا ضمائرهم وبلدهم الرائع الجميل هذا بثمن بخس.
فمع الأسف الشديد أيضًا للمرة الألف، أن لبنان ما زال اليوم يعيش حالة احتقان طائفي مذهبي ينذر بالشؤم أن لم ينتبه أهله من غفلتهم ويتخلصوا من تلك الأفكار البالية القديمة التي أكل عليها الدهر وشرب، التي أصبحت تتحكم في مصير شعبه منذ استقلاله عام (1363هـ - 1943م). فمنذ آنئذٍ حتى اليوم، قيل إن لبنان شهد (75) حكومة على أساس هذا التقسيم الطائفي البغيض الذي تشبثت به ما تسمى بـ(النخبة السياسية) خدمة لمصالحها الشخصية وتنفيذًا لأجندات خارجية، لا تقف أهدافها عند حدود لبنان فحسب، بل تتجاوزه لتعبر على دماء أبنائه لاستهداف كل أمة العرب والمسلمين.
وقد جعل هذا النظام العقيم البلاد تدور في حلقة مفرغة، فما أن يتم تشكيل حكومة، حتى تنفض ليبدأ التفكير في تشكيل حكومة بديلة، لكن مع الأسف الشديد للمرة الألف أيضًا، وما أكثر أسفي على ما صار إليه لبنان بسبب هذا التكالب المحموم على السلطة والثروة، يتم الأمر على الأساس الطائفي نفسه، دونما اعتبار للكفاءات الوطنية المخلصة المدهشة وما أكثرها بين اللبنانيين، بصرف النظر عن الانتماءات الحزبية أو الطائفية أو المذهبية أو حتى العقدية.
ولهذا ما تزال البلاد تدور في حلقة مفرغة تكبلها القيود نفسها التي تكبل كل الدول العربية ذات الأنظمة الشمولية: الفساد الذي أزكم الأنوف، وتدهور الاقتصاد الذي جعل الرؤوس تدور في سبيل الحصول على الكفاف، والفساد السياسي الذي جعل محور الحياة السياسية يتمركز في إرضاء هذه الفئة أو تلك على حساب مصير الوطن كله حتى لا تنزع للاستقواء بالخارج فتهدد استقرار البلاد وأمنها وسلمها الاجتماعي.
وعليه، أتمنى صادقًا أن يتخلص اللبنانيون من قيود الماضي فيتحرروا من روح الطائفية والتعصب السياسي لهذه الجهة أو تلك، ومن ثم يقبرون هذا النظام الطائفي السائد البغيض لينتقلوا إلى الدولة المدنية؛ الأمر الذي يمثل خشبة الخلاص للبنان كله من محنته التي طالما جثمت على صدره، فكبَّلت طاقة أبنائه وشلَّت قدرتهم على البذل والعطاء والإسهام في تحقيق خير العالم، كما وصفه الرئيس اللبناني ميشيل عون في خطابه الأخير إثر اندلاع موجة التظاهرات العنيفة الأخيرة هذه. لكن قبل هذا وذاك، أتمنى صادقًا أن تكون النخبة السياسية التي تدير البلاد اليوم طوعًا أو كرهًا، مخلصة في هذا الطرح، حريصة على تطبيقه والالتزام به حتى إن أقصاها عن المشهد السياسي.
كما أتمنى صادقًا للمرة الألف أيضًا، أن يتحقق وعد الرئيس عون بإجراء انتخابات مبكرة وتشكيل حكومة (إنقاذ) تنقذ البلاد من هذا السبات العميق الذي ما فتئت تدفع ثمنه منذ تأسيسها؛ لكن بالمقابل، أرجو ألا تكون كحكومة (الإنقاذ) في السودان التي استأثرت فيها الطغمة الحاكمة بخير البلاد كله، فجعلت إخوتنا هناك يعانون حتى اليوم من أجل الحصول على رغيف الخبز، وقسَّمت البلاد إلى سودانيين، وأثارت نعرات قبلية، وأشعلت فتيل حروب أهلية ما تزال نارها مستعرة على أكثر من جبهة، والله وحده يعلم متى تضع أوزارها.. فيما يتطلع العالم لتأسيس مدن عامرة بالحياة التي يسودها الرفاه في كواكب أخرى.
فها هي أمريكا التي تسود العالم اليوم قد تعاقب على حكمها غاسل الأطباق، ملمع الأحذية، البناء، النجار، المزارع، البواب، الطباخ، عارض الأزياء، الممثل، بائع الصحف، العامل البسيط وإبراهام لنكولن وباراك أوباما.
أقول هذا من شدة حزني على لبنان الذي طالما عرفته عن قرب، وشدة أسفي على ما وصل إليه حال الأمة العربية التي أصبحت حكوماتها في الدول الشمولية لا تعترف بما ينخر جسد بلدانها من فساد وانهيار اقتصادي وعبث سياسي، إلا بعد أن تكتظ شوارعها بالمتظاهرين الذين يواجهون الرصاص بصدور عارية، فتعجز القبضة الحديدية عن إخراس أصواتهم العالية وتفريق جموعهم الهادرة الغاضبة.. فساعتئذٍ فقط يخرج المسؤولون مؤكدين أن المظاهرات قد حقَّقت أهدافها في لفت انتباه المسؤولين إلى ضرورة محاربة هذا الثلاثي القاتل: الفساد والانهيار الاقتصادي والعبث السياسي، كما أكَّد عادل عبدالمهدي رئيس وزراء العراق بعد مئات القتلى وآلاف الجرحى من المتظاهرين المسالمين.. أصحاب القضايا المشروعة التي طالما سكت عنها (السياسيون) ردحًا من الزمن.
وختامًا: أتمنى من كل قلبي ألا يستمع الشباب اللبناني الواعي لأولئك (الساسة) الذين يهددون اللبنانيين بحشد شارع ضد شارع، وساحة مقابل أخرى، حتى نبعد جميعًا شبح الحرب الأهلية عن (سويسرا الشرق) و(باريس الشرق)، ونحقق الوئام والأمن والسلام بين جميع اللبنانيين.