د. محمد بن يحيى الفال
يعرف عالمنا من خلال إحصاءات وتقارير المنظمات الدولية بأن المملكة العربية السعودية تعد من أكثر الدول مساهمة في تنمية بلاد العالم النامية والبلدان ذات الموارد الطبيعة والمالية المتواضعة، وقدمت ولا تزال في هذا المجال ولعقود ممتدة حصة معتبرة من دخلها الوطني لمساعدة هذه الدول؛ وذلك إيماناً منها بأن ما تقدّمه من مساعدات يصب في ما تمليه عليها القيم الإنسانية التي دعا لها الدين الإسلامي الحنيف والتي تعتز بكونها حباها الله كحاضنة وحاميه لمقدسات المسلمين في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة وبكونها كذلك عضو مؤسس لهيئة الأمم المتحدة والتي كان أحد أهم الأهداف من إنشائها تحفيز وتنمية التعاون الدولي من أجل تعزيز الأمن والسلم الدوليين وهو الأمر الذي قدمت فيه المملكة مُساهمات جليلة وسخية جعلتها وباقتدار بأن يطلق عليها وباستحقاق مملكة الإنسانية. مملكة الإنسانية وبخبرات مُتراكمة لقادتها تؤكد على الدوام أن أحد أهم القيم الإنسانية لاستقرار الدول ومن ثم استقرار العالم هو نشر الأمن والأمان، وبأنه لا يمكن للدول أن تنمو وتزدهر إلا من خلال تمتعها بنعمة الأمن والسلام وهو الأمر الذي أكد عليه في الكثير من المناسبات والخطابات كل من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود. عليه فإن التاريخ يشهد بأن مملكة الإنسانية وبسجلها الناصع والذي يقل مثيله هي أيضاً مملكة السلام من خلال جهودها المميزة والمستنيرة وذات الرؤية المستقبلية في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء وتذليلها بجهد لا يعرف الملل ولا الكلل؛ وذلك من أجل أن تنعم بلدانهم بالسلام والذي هو مرادف أصيل للتنمية والتي يستحيل لها أن تتم بدونه. مساعي المملكة في نشر السلام كثيرة ولا يمكن لمقالة واحدة أن تغطيها، بيد أن هناك ثلاث اتفاقيات سلام كانت جهود المملكة من وراء إبرامها ونرى في وقتنا الحاضر أهميتها وضرورتها في إنهاء صراعات مزمنة كانت نتيجتها عشرات الآلاف من القتلى ومثلهم ويزيد من الجرحى وأمهات وزوجات ثكالى على مفقوديهن في هذه النزاعات وملايين من النازحين وتخريب للبلاد وتشريد للعباد. اتفاقيات السلام التي يمكن وصفها بالتاريخية كونها أنهت صراعات مُزمنة وهي وحسب الترتيب الزمني لأحدثها كل من اتفاق الرياض واتفاقية جدة واتفاقية الطائف.
أبُرمت اتفاقية الرياض التاريخية في الخامس من شهر نوفمبر الجاري برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وبحضور صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وفخامة الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي وولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، وجاءت نتيجة لجهد دبلوماسي مكثّف من المملكة ومحادثات مضنية استمرت لشهري أغسطس وأكتوبر 2019 بمدينة جدة للحد وبشكل نهائي من الصراع بين كل من الحكومة الشرعية اليمنية والمعترف بها دولياً والتي يمثّلها فخامة الرئيس هادي وبين المجلس الانتقالي الجنوبي. أهمية الاتفاقية تكمن في أنها أنهت صراعاً كان دائماً موجوداً وإن كانت تخبو جذوته بين الفينة والأخرى بين كل من الحكومة الشرعية وبين المحافظات الجنوبية وهو الأمر الذي كان قائماً منذ الوحدة اليمنية التي تلت حرب عام 1994 . أكد أتفاق الرياض على أهمية دعم استقرار اليمن من خلال التزام كافة الأطراف اليمنية المتنازعة بالمرجعيات الثلاث المتمثلة وحسب الترتيب الزمني لحدوثها بالمبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية، مخرجات مبادرة الحوار الوطني اليمني الشامل وبالقرارات الأممية ذات العلاقة بالوضع في اليمن وأهمها القرار 2216 . يتكون اتفاق الرياض من ديباجة صيغت في تسعة بنود أكدت على أهمية تفعيل مؤسسات الدولة اليمنية بالتزام كامل بحقوق المواطنة لكافة أبناء الشعب اليمني بلا طائفية أو مذهبية وإعادة تنظيمه القوات العسكرية اليمنية تحت قيادة وزارة الدفاع والقوات الأمنية اليمنية تحت إمرة وزارة الداخلية. واشتمل الاتفاق على ثلاثة ملاحق، الملحق الأول تناول الترتيبات السياسية والاقتصادية، وجاء هذا الملحق في 7 بنود أهمهما بأن يكون توزيع المناصب الوزارية الأربعة والعشرين بالتساوي بين محافظات الشمال والجنوب على أن يتم اختيار الوزراء ممن يُشهد لهم بالكفاءة والنزاهة. الملحق الثاني تناول الترتيبات العسكرية وجاء في هذا الملحق 6 بنود من أهمهما عودة جميع القوات التي تحركت من مواقعها ومعسكراتها السابقة باتجاه عدن وأبين وشبوة إلى مواقعها السابقة بكافة أفرادها وأسلحتها، وتوحيد كافة القوات العسكرية تحت إمرة وزارة الدفاع التابعة للشرعية اليمنية المعترف بها دولياً. فيما اختص الملحق الثالث بالترتيبات الأمنية، وجاءت في 7 بنود وأهمهما إعادة تنظيم القوات المسؤولة عن حماية المنشآت في قوة موحدة ولى أن ترتبط بوزارة الداخلية للحكومة الشرعية ويؤكل إليها تنظيم كافة الشؤون الأمنية في المحافظات الجنوبية والحفاظ على مقر الحكومة المؤقت والبنك المركزي وموانئ ومطار عدن والمصفاة وكافة وزارات ومؤسسات الدولة.
الاتفاق التاريخي الآخر الذي رعته قيادة المملكة وأنهى أكثر من عقدين من النزاع المسلح بين الجارتين إثيوبيا وإرتيريا هو اتفاق جدة الذي وقّع في جدة بتاريخ السادس عشر من شهر سبتمبر 2018 برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وصاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وبحضور كل من رئيس إرتيريا آسياس آفورقي ورئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد علي وشهد التوقيع على الاتفاق العديد من الدبلوماسيين والسياسيين يتقدمهم الأمين العام للأمم المتحدة البرتغالي أنطونيو غوتيرس. جهود المملكة التي نتج عنها هذا الاتفاق أنهت معاناة طويلة من النزاع المسلح الذي خلَّف أكثر من 100 ألف قتيل وعشرات الآلاف من الجرحى ومئات الآلاف من النازحين وخسائر مادية تخطت 6 مليارات من الدولارات. اتفقت الجارتان من خلال اتفاق جدة على سحب القوات العسكرية من حدودهما وفتح المعابر البرية بينهما والشروع في فتح السفارات واستئناف الرحلات الجوية بين البلدين والتعاون في تطوير الموانئ الإرتيرية لتسهيل الاستفادة منها من قبل إثيوبيا.
اتفاق الطائف التاريخي الذي رعته المملكة بقيادة الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود أنهى الحرب الأهلية اللبنانية التي استعرت لأكثر من خمس سنوات (1975-1990) وخلفت أكثر من 120 ألف قتيل وعشرات الآلاف من الجرحى والمفقودين ومثلهم من المشردين وأكثر من مليون نازح لبناني تفرَّقت بهم السبل في كافة أنحاء المعمورة. جاء اتفاق الطائف لينهي مأساة الشعب اللبناني الشقيق ولتضع الحرب الأهلية اللبنانية أوزارها ووقَّع عليه كافة القوى اللبنانية في مدينة الطائف بتاريخ 30 سبتمبر 1989 وليُسن كقانون لبناني تحت مسمى قانون الوفاق الوطني بتاريخ 22 أكتوبر 1989. عاش لبنان ومنذ ذلك التاريخ بأمن وأمان على ضوء نتائج اتفاق الطائف والذي أدى الانحراف عن مساره إلى ما نراه اليوم من تشتت في الساحة اللبنانية والذي يشكِّل تهديداً غير مسبوق للأمن والسلم الاجتماعي للإخوة الأشقاء في لبنان. نرى ذلك من خلال محورين أساسين حرص عليهما اتفاق الطائف بنظرة ورؤية مستقبلية أكدت صحتهما الأوضاع الحالية في لبنان ولو تسني تطبيقهما لما وصل الحال بلبنان للمأزق الحاد الذي يعيشه الآن، المحوران أولهما ما نصت عليه المادة السابعة من الإصطلاحات السياسية والتي جاء فيها» في حالة انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني، لا طائفي يستحدث مجلس للشيوخ يتمثَّل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية»، فلو قيّض أن تم انتخاب مجلس نواب لا طائفي لكان مجلس الشيوخ الذي اقترحه اتفاق الطائف كفيلاً بحل الأزمات المصيرية التي تواجه لبنان كما هو الوضع الحالي. طبعاً يحاول بعض الساسة اللبنانيين خصوصاً المحسوبين والتابعين لنظام الملالي وعلى رأسهم حزب الله وأمينه العام الذي يعلن على الملأ وباستمرار ولاءه لعرّابيه في طهران، التشدّق بأن اتفاق الطائف تجاوزه الزمن هو الأمر غير الصحيح جملة وتفصيلاً، بل الواقع والوضع على الأرض يؤكدان بوضوح لا لبس فيه بأن بنود اتفاق الطائف سبقت عصرها وزمنها بثلاثين عاماً. المحور الثاني هو ما تضمنته الفقرة الأولى من بند إلغاء الطائفية السياسية في اتفاق الطائف وأكدت الفقرة على أهمية إلغاء التمثيل الطائفي واعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة والمصالح المستقبلية، ولقد تم تقويض هذه المادة في مقتل من خلال تغوّل ميليشيا حزب الله في كافة مقومات الدولة اللنانية ما كانت نتيجته وخيمة بنشوء دولة هجينة في رحم الدولة اللبنانية مما شكَّل تقويضاً تاماً لسيادة الدولة اللبنانية وانهياراً لكل مقومات الحياة في لبنان سواء كان ذلك فيما يخص المجتمع أو السياحة بشكل خاص أو الاقتصاد بشكل عام.
طبعاً سنسمع من الإعلام المؤدلج وعلى رأسه قناة الجزيرة القطرية الكثير من التُرهات والأكاذيب للنيل من مساعي المملكة في نشر السلام ونبذ الفرقة بين الفرقاء والإخوة والأشقاء، فقد أضحى جلياً وبما لا يدعو للشك أهدافها التخريبية في تزييف الحقائق والتي سخّرت لها كل إمكانياتها والتي أصبحت معروفة ومكشوفة لغالبية الرأي العام العربي من المحيط إلى الخليج. سعت وتسعى مملكة الإنسانية والسلام المملكة العربية السعودية لنشر السلام المبني على الحق والقوة ولن يزيدها كيد الكائدين وحقد الحاسدين إلا إصراراً وقوة ومنعة في تحقيق ما هو خير ورخاء لشعبها وللبشرية جمعاء، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ...}.