د. إبراهيم بن محمد الشتوي
ختمت المقال السابق بالقول إن الملابس تتحول في المقول عنها إلى ذوات مستقلة ذات شخصية بارزة، إلا أن واقع الأمر أن هذه المكانة الكبيرة للملابس في المقول، وهذه الصورة الظاهرة لا تخرجها من حالة أنها تظهر بهذه الصورة لأن تكون محل قبول ورغبة من لدن المستهدف في المقول، وهو المتلقي (المرأة)، وأن المرأة هي الذات بناء على أن الملابس ستظهر من خلالها، وأنها هي التي ستتخذ قرار القبول أو الرفض والاستحسان أو الإنكار، وهذا حولها (الملابس) إلى موضوع في محل التصرف، واقع عليها الفعل، وهو ما يؤدي إلى أن تصبح الزينة سواء كانت في الملابس أو سواها متصفة بحالة تجمع فيها بين الذات والموضوع، فهي ذات من منظور وموضوع من منظور آخر، أو ذات في حالة وموضوع في حالة أخرى.
وقد تجلى هذا التداخل بين الذات والموضوع في الزينة باللغة التي تعبر بها عنها، فهي تأتي وقد أسند إليها الفعل؛ فهي تكشف، وتظهر، وزينت، وتمنح، ويضفي، وتألق المعطف، وأتى الفستان، وتأتي أيضاُ في الدائرة التي وقع عليها الفعل أو بالطريقة النحوية مفعولاً به أي «موضوع» فهي واقعة تحت سلطة الفعل المسند للمرأة: أضيفي، ارتدي، اختاري الكنزة الصوفية، ابحثي، نسقي.
والأمر نفسه يمكن أن يقال عن المرأة، فنحن حين نتأمل الهدف الكلي من هذا المقول نجد أنه السعي إلى تجميل المرأة، وإظهارها في أجمل حلية سواء أكانت في الملابس أم غيرها، وبجعلها تسر الناظرين، تثير الانتباه، وتلقى القبول وتتصف بالجاذبية الآسرة لدى الآخر، (الذكر) على وجه الخصوص، الأمر الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى جعلها امرأة جذابة مرغوباً فيها، وهو ما يعني أنه في الوقت الذي تصبح فيه المرأة فاعلة بحيث إنها المقصودة بالخطاب، والمستهدفة فيه، وهي الفاعلة في القبول (ذات)، فإن الخطاب يسعى في النهاية لتحويلها من خلال قبولها لدى الآخرين إلى موضوع «شيء»، أو يمكن القول «سلعة» (ليس بالمعنى المبتذل) يراد تسويقها ونشرها.
فهي (لغة المقول عن الزينة) تتميز بحالة خاصة تصبح فيها المرأة ذاتاً وموضوعاً في الوقت نفسه، مع وعي المرأة بهاتين الحالتين معاً، فهي تتلقى اللغة وتستجيب لها بوصفها ذاتاً، وتأخذ الزينة التي هي موضوع اللغة من زاوية أنها الأدوات التي تعززها وتجلوها (الذات) بوصفها موضوعاً، مما أكسب اللغة حالة فريدة من التركيب اختفى فيها الموضوع خلف الذات، فجاءت دالة على الموضوع مع أنها ذات في التركيب الظاهري.
يظهر هذا في الفعل «الفتي الأنظار»، و«تأثير الشفتين الجذاب»، و«تألق آسر»، «ينضح بالسحر والجاذبية»، فهذه الأوصاف التي تنطوي عليها هذه العبارات تحمل في تكويناتها المزج بين الدلالة على الذات والموضوع، فالفعل مسند إليها فهي التي تقوم به، والصفة لها، وهذه دلالة على الذات، لكنها في الوقت نفسه تجعلها تتصف بهذه الصفة لتكون غرضاً للمجذوب، أو المؤثر به حتى يقبلها بعد ذلك، ويستجيب لتأثيرها أو سحرها أو بريقها وشعاعها، وهذا يجعلها غرضاً أو هدفاً للمنجذب أو المتأثر، والغرض موضوع وليس ذاتاً، فهي تقوم بالجذب في الوقت الذي يقع عليها الانجذاب.
ومما تتجلى به هذه الوحدة بين الذات والموضوع مصطلح «الطلة»، فالمجلات المعنية بشئون المرأة تستعمل هذا المصطلح باشتقاقاته المختلفة، المفرد طلة، والجمع طلات، أو المصدر إطلالة، وإطلالات، أو الفعل «يطل»، ويقصدون به الحالة التي تظهر بها المرأة وقد تزينت بأكمل حليتها، فتصبح موضوعاً للفتنة والانجذاب، و لفت الانتباه في الوقت الذي هي تقوم بهذا الفعل وهو الجذب، وإثارة الفتنة ولفت الانتباه.
و«الإطلالة» هنا هي غرض العمل الدؤوب من مصممي الملابس والزينة، فهم يحتشدون لأن تكون على أحسن ما يمكن أن تصل إليه صنعتهم، فتكون مكتملة المناسبة للمقام، ومكتملة الصورة في الجمال، ومثيرة الناظر، وقادرة على أن تخفي ما يحسن إخفاؤه من اللابس، ومبرزة ما يحسن إبرازه منها، فهي نتيجة العمل الذي يقوم به المشتغلون بالحلية، فهي موضوع لأنها غرض المصممين، ومحل نشاطهم، واشتغالهم، وهي ذات لأنها تبرز المرأة في النموذج الذي تريده، وتمكنها من تحقيق غاياتها كالجاذبية، والفتنة والسحر والجمال.
وهذا يعني أن الزينة سواء كان في الملابس أو غيرها تجمع بين حالتين، فتكون ذاتاً مرة وموضوعاً أخرى، وكذلك المرأة أيضاً وهو ما لا يتحقق إلا بهذا المقول الذي تعتمد عليه هذه المجلات في بنائها، وهذا يعكس حقيقة التداخل بين المرأة والزينة أو بين المرأة والملابس بوصف أحدهما رمزاً للآخر ودالاً عليه، ويقوم بوظيفته أيضاً.