سهام القحطاني
«التعليم هو الركيزة الأساسية التي نحقق بها تطلعات شعبنا نحو التقدم والرقي».
-الملك سلمان بن عبدالعزيز-
أصبحنا اليوم للأسف عندما نتحدث عن التعليم والثقافة فنحن نتحدث عنهما كمكونين فكريين منفصلين، وواقعية هذا الفصل غير المنطقي مصدره أننا تعودنا في المجتمع السعودي على «فصل التعليم» عن كل ماله علاقة بالإبداع والحرية الفكرية.
وهذا الفصل هو الذي ربى داخلنا وهما أن التعليم شيء والثقافة شيء آخر.
والأدهى من هذا الفصل هو اعتقاد البعض بأن الثقافة باعتبارها مضادًا حيويًا للنمطية هي عدو للتعليم باعتباره داعما لكل نمطي -وهو اعتبار غير صحيح جملة وتفصيلا-، مما جعل الثقافة هي بمثابة عبء على التعليم كممارسة تطبيقية.
ولعل لهذا المنطق الغريب للفصل ما يبرره، من قِبل صانعه؛ فقد كان الأوائل من المسؤولين عن التعليم يعتقدون أن الثقافة هي داعم للنهضة الفكرية في المجتمع، وتلك النهضة كانت تعني لهم «التحرر والعلمانية» -وللأسف أن هذا الظن مازال ساريا مفعوله عند البعض- ولذلك حاولوا أن يحيطوا التعليم «بجيتو فكري أحادي الاتجاه»، ظنا منهم أن هذا الإجراء هو حماية للتعليم من التغيير، وهي إحاطة اكتشفنا آثارها السلبية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
كما أن تلك الآثار السلبية كانت هي السبب وراء الحركة الإصلاحية الأولى في تاريخ التعليم السعودي الحديث التي طبقتها الحكومة بحكمة رشيدة وموضوعية متوازنة لتفكيك جيتو تلك الأحادية الفكرية عن التعليم من خلال إعادة صياغة مناهج التعليم بما يتوافق مع قيم الوسطية في الإسلام ومبادئ التسامح والتعايش مع الآخر، ليبدأ التعليم يتنفس هواء نقيا بعيدا عن التطرف الفكري.
في المبتدأ عندما فصلنا التعليم عن الثقافة اكتشفنا حجم فجوة الفراغ بين المخرج التعليمي والفاعل الثقافي، هذه الفجوة التي كانت تظهر من خلال الصراع الفكري بين التيارات الثقافية في الميدان الثقافي والاجتماعي وتلقي بظلال التطرف والعنصرية والتكفير أو الرجعية والجهل والتخلف من قِبل الطرفين، حتى تحولت «قيمة الاختلاف الثقافي إلى خلاف ديني» وهذا التحول يتحمل التعليم مسوغه وحاصله؛ لأن المختلفِين هم من «مخرجات التعليم».
إن فصل قيم الثقافة الداعمة للتنوع الفكري والاختلاف الثقافي واحترام الرأي والرأي الآخر عن قيم التعليم الداعمة للنمطية والأحادية الثقافية أكسبت «المخرج التعليمي» -بقصد أو دون قصد - موقفا غليظا متشددا ضد كل تنوع فكري واختلاف ثقافي وقمعا لأي رأي آخر، إضافة إلى غياب أدبيات الحوار واستبدالها بالشتم والسب والتشكيك في الدين والتمييز العنصري، فالعنف اللفظي هو الذي أصبح يغلب على شبابنا -مخرجات التعليم- في الحوار بدلا من الموضوعية والمنطقية.
وأي دراسة سوسيولوجية لمواقع التواصل الاجتماعي التي يجب أن يدرسها مركز بحث خاص بوزارة التعليم سيكتشف ما قلته سابقا. فالتعليم ليس «قرأ وكتب» بل هو «خلق للفاعل النهضوي»، وهذا المبدأ الحضاري هو الذي ركزت عليه رؤية التنوير 20/30 الحركة الإصلاحية الثانية.
التي تأسست ركائزها بمباركة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي العهد محمد بن سلمان حفظهما الله؛ إيمانا منهما بأن الإنسان هو الثروة الحقيقية لهذا البلد المبارك والتعليم هو الفاعل الحقيقي الذي يحول الثروة البشرية إلى ثروة حضارية ونهضوية.
لقد جاءت رؤية 20-30 لتحرر التعليم من «جيتو الأحادية الثقافية والسلوكية والفكرية»، كما تُحرر الطلاب من كونهم «مخرج كمي» إلى «فاعل نهضوي» يقاس بناتج القدرة والاستطاعة والإنتاج والمشاركة الحضارية سواء على المستوى الفكري أو السلوكي.
لاشك أن تجديد فكر التعليم العام بكفاءة أكاديمية من خارج سلك التعليم تترأس هرم وزارة التعليم أفاد التعليم؛ لأن القادم من خارج التعليم العام يملك قدرة على تحديد مشاكل التعليم عكس القادم من داخله.
وفي هذا المقام فلابد من الإشادة بجهود وزير التعليم الحالي الدكتور حمد آل الشيخ وما يحمله من رؤى نهضوية مدعومة من خادم الحرمين الشريفين وولي عهده حفظهما الله، ومرسِخة لرؤية 20-30.
إن التعليم هو أساس نهضة المجتمعات ليس لأنه المخوّل الأولي والرئيس لخلق الفاعل النهضوي البشري من حيث بناء قيم الأفراد ومرتكزاتهم الفكرية وأدبياتهم الأخلاقية والسلوكية، بل ولأنه المصدر الوحيد الذي يضخ الطاقات المختلفة في مجالات العلم والإبداع والابتكار، وهذه العلاقة «الأبوية» بين التعليم والمرافق النهضوية الأخرى مثل الإعلام والثقافة والفن، تتطلب منه أن يكون بين تلك المجالات هو الأفضل والأشمل والأقدر والأكثر تجديدا ليستطيع القيام بمهمته «الأبوية» كمُصدّر للفاعل النهضوي وللطاقات البشرية لكافة المجالات.
وهذا ما يجعل التعليم الممثل الأول لفكرة التكامل بينه وبين المرافق النهضوية المختلفة في المجتمع من خطط تنموية وثقافة وإعلام وفنون على مستوى القيم الدينية والوطنية والعلمية والإبداعية لتصبح تلك القيم ركائز تنطلق منها المشاريع التنموية والثقافية والإعلامية والعلمية والإبداعية والفنية في السعودية.
وبهذه التكاملية لن نجد أي فجوة فراغ أو تقاطع أو صراع بين ما يحمله «عقل المخرج التعليمي» وبين عقل الفاعل النهضوي الممثل لبقية المجالات الأخرى في المجتمع.