د. محمد عبدالله العوين
بعد نشر مقالي عن (جيل الطيبين) والمقال الذي قبله (قصة الأمس) أرسل عددٌ من القراء يناكفني بمحبة ويتساءل عن غرامي باسترجاع الماضي وحنيني إليه، ويعلِّل ذلك بأنني (شايب) وإلا ما كنت بين حين وحين أعود إلى العزف على نغمة الحنين وتذكر ما مضى من الأيام والسنين، ويبدو أن ذاكرته ممتازة لا تدع شاردة ولا واردة مما كتبت في مثل هذه الشؤون إلا تذكرها؛ فما فوت مقالي عن (الرياض القديمة) ولا (مكتبات الرياض) ولا (أساتذتي) ولا (مشاهير التقيت بهم) وهلم جرا مما سار على هذا النحو الذي أهتم به، ثم زاد على ذلك حتى كدت أصدقه وأسكت لا أروم جواباً ولا أملك كلمة أرد بها عليه حين قال: وأنت أيضاً يا أبا مشعل تؤكد أنك (شايب عايب) بما تضعه في حسابك من صور لقديم مدينتك ولشخصياتها ولأصدقائك ولذاتك أيضاً قبل عقود من الزمن، وحين كتب كلمة (عقود) قلت: عسى ألا يكمل فيكتب أربعة أو خمسة أو ستة! ولكنه واصل تدفقه في ممازحة يمكن أن تدخل في باب (المدح بما يشبه الذم) فتأرجح بين التصريح والتلميح حتى كدت أن أوقفه عن اتهامي بما لا أشعر به كما تبادر إلى ذهنه الكليل.
قلت له: العناية بالماضي لا تعني أن من يكون شجِناً رقيقاً يمتلئ بالحنين إلى ما سلف من أيامه وأهله وأصدقائه ومواضع عيشه ولهوه وجده وقصصه وأحداثه ومناسباته السارة والضارة لا بد طاعناً في السن خرفاً منبتاً عن زمانه منكفئاً إلى الماضي غير حفي بجديد الحياة!
حين أعبر بالمقال أو بالصورة عن شيء من الحنين إلى الماضي فإنني أحن إلى أولئك الذين عاشوا ذلك الماضي من الأحباب والأصحاب، من الآباء والأمهات والأقرباء والأخدان والأتراب؛ لكن هل يمكن أن تعيد الكلمة أو الصورة من مضوا إلى رحمة الله؟! الحنين إلى المكان ليس إلى ذاته؛ فهو جماد لا ينطق ولا يعبر ولا يهمس بكلمة ترحيب في لقاء؛ إنما ما انطوى عليه ذلك المكان من ذكريات وقصص ووجوه وملامح ومناجاة وبوح وشكوى وإفضاء كما قال مجنون ليلى:
أمر على الديار ديار ليلي
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا!
أما العمر فلا يحسب بمرور السنين وتعاقب الشهور والأيام؛ بل إن العمر الحقيقي هو: من أنت وكيف تفكر وتشعر؟ وما نتاجك وإنجازك؟ هل أنت سعيد مبتهج متفائل إيجابي؟ أم تعيس مكتئب سلبي لا تعطي ولا تحسن وتسعى إلى الخير؟
كم من معمر عبء على نفسه وعلى الحياة، والرقم الكبير الذي دون في بطاقته الشخصية لا يساوي إلا صفراً، وكم من مثله كل يوم يمر في حياته عمر وحياة وإنجاز جديد.
الحق أن (الشايب) هو ذلك الشاب المكتئب اليائس المحبط الخامل الذي يعيش بسن المائة!