د.عبد الرحمن الحبيب
«اقتصاديون هاربون»، بهذا العنوان كتب مايكل هيرش نائب رئيس تحرير «فورين بولسي» مقالاً طويلاً، خلاصته أن كبار اقتصاديي الفكر الأمريكي الذين كانوا يروّجون للعولمة يعترفون الآن بخطئهم الفادح بأنهم بالغوا في تمجيد العولمة وهاجموا من انتقدها أو حتى أشار لسلبياتها.. واعترفوا بأنهم لم يقدروا إمكانية أخطائها، بل وكوارثها الاقتصادية والاجتماعية خاصة على العمال بأمريكا.. ويرون أن هذا الخطأ برر لترامب التوغل بالحمائية ومعادة العولمة والتجارة الحرة، لكنهم لا يقرون بسلامة قرارات ترامب التي يرونها متهورة وحمقاء..
بداية مع الاقتصادي الأشهر، بول كروجمان الحائز على جائزة نوبل، الذي اعترف أنه كان مخطئاً بشأن العولمة، بإدراك أنها ستؤدي إلى «هايبر عولمة» واضطرابات اقتصادية واجتماعية، خاصة بالنسبة للطبقة الوسطى الصناعية بأمريكا التي تضرَّرت بشدة من المنافسة الصينية، وأن الاقتصاديين ارتكبوا «خطأً جسيماً» بتقليل قيمتها. لذا، فإن كروجمان يتعرَّض حالياً لنقد حاد، بأنه وغيره من الاقتصاديين الرئيسيين ساعدوا بوضع شخصيات حمائية، ترامب، في البيت الأبيض مع الكثير من الإجراءات السيئة للأسواق الحرة.
كما ذكر الصحفي بنيامين أبيلبوم بكتابه الجديد: «ساعة الاقتصاديين.. متنبئون كذبة، وأسواق حرة، وتمزيق المجتمع»، أن الاقتصاديين هيمنوا على صناعة السياسات بواشنطن.. وقاموا بتضليل الأمة، مما ساعد على تعطيلها وتقسيمها اجتماعيًا بإحساس زائف باليقين العلمي بشأن عجائب الأسواق الحرة.. وضغطوا على السوق على حساب الرفاه الاجتماعي.. ومصالح المستهلكين على حساب مصالح المنتجين. لكن أبيلبوم ليس مع الحمائية التي يطرحها ترامب، بل إنه كتب عنه: «أن جهله بالاقتصاد الأساسي لا مثيل له بين الرؤساء الأمريكيين المعاصرين».
أما دافيد أوتور، الخبير الاقتصادي بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، فيثني على اعتراف كروجمان بالخطأ، ولا يلوم كبار الاقتصاديين على دفاعهم السابق عن التجارة الحرة، لأن روح العصر كانت مؤيدة لحرية التجارة لدرجة العقيدة: «كان الافتراض الأساسي هو أنه ينبغي إخبار صانعي السياسة بأن التجارة الحرة كانت جيدة للجميع بكل الأماكن والأزمنة».
هنا، لا بد من المرور بداني رودريك، الاقتصادي بجامعة هارفارد (رئيس الرابطة الاقتصادية الدولية) لأنه منذ التسعينات حذَّر من سلبيات التجارة الحرة، وكان متقدماً على وقته، كما قال أوتور. رودريك أصدر مؤخراً كتاب «نقاش صريح حول التجارة» يناقش التجارة الحرة وما تمثّله من توترات بين العولمة والوطنية، وبين الديمقراطية والشعبوية، طارحاً رؤية وأفكاراً مبتكرة ترسم مسار التقدم العقلاني للاقتصاد العالمي وإعادة هندسة اقتصاد السوق، عبر استعادة توازن صحي بين اقتصاد العولمة والسيادة الوطنية.. بين حرية التجارة وعدالتها.. فاحتضان الحكومات للتجارة الحرة المفرطة تبعه استحواذ الشركات على الأجندة الاقتصادية لبعض الدول..
من هنا، تمكن ترامب من شن حرب تجارية غير مسبوقة معلناً بأن الصين قد ارتكبت «اغتصاب» للاقتصاد الأمريكي، ومستغلاً عدم ثقة الجمهور وخوفه من الصين؛ ويعود الفضل بذلك جزئيًا إلى سوء القراءة السابقة للاقتصاديين، وتحديداً حول الكيفية التي سيؤدي بها سرعة نمو اقتصاد الصين إلى إزاحة الكثير من الوظائف الصناعية الأمريكية، إذ سمحت الإدارات الأمريكية السابقة للصين بالفرار بالكثير مما حصلت عليه، كالتخفيض المصطنع لقيمة عملتها لغرض زيادة الصادرات؛ مما أعطى مصداقية لمفاهيم ترامب التجارية، مهما كانت زائفة، حسب وصف هيرش.
هيرش يرى أن المشكلة تعود جزئياً منذ التسعينيات عندما بدأ إجماع الاقتصاديين ما بعد الحرب الباردة، بتبسيط النظرة للتجارة: فإما أن تكون مع التجارة الحرة أو مع الحمائية، وتم اعتبار أصحاب الحلول الوسط مناصري للحمائية واستبعدوا من النقاش، مثل من جادل بأن الوظائف والأجور بأمريكا قد تتأثر بشدة بالمنافسة مع العمالة الرخيصة بالعالم النامي؛ والذين طالبوا بنوع من تدخل الحكومة بالأسواق والتجارة العادلة (المزيد من التعرفات والتأمين ضد البطالة وحماية العمال وزيادة الضرائب بزيادة تنقل رأس المال).
لكن كان هناك شيء آخر، يقول كروجمان، فكثيرون اهتموا بالحقائق القديمة حول التجارة المفتوحة والميزة النسبية التي لم تعد مؤثّرة كالسابق، بينما حلَّت محلها اتجاهات جديدة مثل سلاسل التوريد العالمية، التي حولت أعدادًا هائلة من الوظائف للخارج واستولت على مجتمعات بأكملها. كما ذكر جين سبيرلينج (الرئيس السابق للمجلس الاقتصادي الوطني) أن الانفتاح السريع للتجارة مع البلدان النامية، إلى جانب اتفاقات الاستثمار، أدى إلى «تغيير جذري في القدرة التفاوضية للعمال وإضعاف نقاباتهم..
كل ذلك عمل على إعادة التفكير في بعد رئيسي آخر للاقتصاد التقليدي، إذ كان الاقتصاديون يعتقدون أن البطالة المنخفضة تؤدي للتضخم، وأنه خلال أوقات الازدهار، يمكن للعمال رفع أجورهم.. لكن هذه العلاقات انهارت، كما كتبت مجلة الإيكونوميست، إذ تشير الوقائع الناشئة إلى شيء مختلف: بعد ربع قرن حولت فيه الشركات متعددة الجنسيات العالم بأسره إلى أرضها الاقتصادية، بينما العمال عادة يبقون في بلدانهم، ومن ثم فإن رأس المال المعولم الذي يظهر كسلسلة إمداد متعددة الجنسيات، له اليد العليا على اليد العاملة المحلية.
قبل أيام كتب رودريك: «بالكاد بدأ الاقتصاديون في تنظيف الفوضى التي تركوها وراءهم.. الآن بعد تقريباً فوات الأوان لأنه ليس من الممكن حتى إجراء مناقشة عقلانية مع ترامب. لقد تجاهل الرئيس الأمريكي بشدة الاقتصاديات الحديثة، وأعاد الحمائية الصارمة».