ما أكثر الأفلام والقصص والروايات التي يتألف عنوانها من جملة اسمية يكون المبتدأ فيها اسم علم (أو وصفاً) والخبر شبه جملة جار ومجرور ويكون حرف الجر (في) والمجرور مكاناً ما.
ولعلكم تتذكرون تمثيلية عبدالعزيز الهزاع (بدوي في طيارة) وفيلم سميرة توفيق (بدوية في باريس) وعشرات الروايات التي تحمل عناوين مشابهة.
كدت أصرف النظر عن قراءة رواية الأستاذ فارس الروضان (لولوة في باريس) ظناً مني بأنها تسير على هذا المنوال الذي لا يتجاوز عرضاً لرحلة شخص ساذج في مجتمع متقدم وما يحدث من مواقف بسبب هذا التباين، غير أني وأنا أتقدم في قراءة الرواية وجدت حبكة فنية مائزة، وموضوعات تستحق التناول. قد يكون فارس - أو الناشر (دار مدارك للنشر) - اختار هذا العنوان ليضمن تسويق الرواية وقد نجح، بدليل صدور ثلاث طبعات في الفترة من عام 2014 إلى 2015 ولا أدري إلى كم وصل عدد الطبعات الآن، لكن رأيي الشخصي أن فارساً لم يوفق في اختيار عنوان دال على محتوى الرواية. فالرواية لا تتحدث عن لولوة في باريس وحدها؛ بل هي أقل الشخصيات ظهوراً وتحركاً في باريس. الشخصية الأبرز هي شخصية (خالد) الذي ظل بطل الرواية الرئيس منذ أول صفحات الرواية حتى نهايتها. وهي حكاية السعوديين الأثرياء في مقاهي (الشانزلزيه) وهي حكاية العائلات السعودية المحافظة التي تقضي صيفها في باريس تقليداً لغيرهم، لكنهم يكادون لا يغادرون أجنحة فنادقهم حتى يجنبوا بناتهم ما يحدث في مقاهي باريس.
خالد موظف متوسط الحال يسافر إلى باريس في رحلة سياحية متأثرا بما سمع عنها، يحضر متأخراً لمطار الملك خالد الدولي بعد إشغال مقاعد الدرجة السياحية كلها، ويجد نفسه مجبرا على ترقية تذكرته للدرجة الأولى مقابل مبلغ مالي موجع لميزانيته ليحصل على آخر مقعد فيها.
في الطائرة تبدأ حكايته مع (لولوة) التي صادف أن كان مقعده بجوارها، وأجبره خجله على عدم خوض حديث معها رغم افتتانه بها إلا في نهاية الرحلة، إذ لاحظت لولوة أنه يقرأ في ديوان بدر بن عبدالمحسن، فكان عشقهما لشعر البدر هو فاتحة الحديث.
سذاجة خالد وسوء تصرفه وخجله جعلته يستغل فرصة سقوط بطاقة صعود الطائرة الخاص بلولوة ليكتب عليه رقم هاتفه قبل أن يعيده لها دون أن يلفت انتباهها لذلك. وتعمل الصدفة دورها فتسقط منها البطاقة وهي تقرأ رقم هاتفه وتسير في الصف الطويل البطيء المؤدي إلى مكاتب الجوازات في مطار باريس.
يتعلق كل منهما بالآخر ويظلان في الأيام التالية حتى موعد عودة خالد للمملكة يبحث أحدهما عن الآخر بطريقة تشبه طريقة الأفلام، حيث يقترب كل منهما من الآخر لكن يحول دون اللقاء مكالمة هاتفية تجعل خالداً يتوقف عن دخول المكان، أو سقوط شيء منه وهو في سيارة الأجرة فيخفض رأسه حتى تتجاوز السيارة المقابلة التي تحمل لولوة.
لولوة جاءت لزيارة أهلها الذين سبقوها من بداية الصيف، لكنها اضطرت للتأخر حتى أنهت امتحاناتها في الجامعة ولحقتهم. تشاركها أختها مشاعل في البحث عن خالد ويشارك خالداً صديقُه عبدالله - الذي جاء بعد أيام من وصول خالد - رحلة البحث عن لولوة. ولأن عبدالله خبير بباريس فقد أخذ صديقه إلى الأماكن التي يلتقى فيها السعوديون عادة؛ أي شارع (الشانز) وكذلك فعلت لولوة وأختها مشاعل للبحث عن خالد ولكن بصعوبة. ونظراً لأن أسرتهما محافظة فهما تتسللان خلسة بين فترة وأخرى لا تكفي للبحث ولا للبقاء في المقاهي الباريسية.
ويتحول بحث عبدالله وخالد عن لولوة إلى وصف لمعالم باريس ولا سيما مقاهيها وأبنيتها العريقة، وتشريح لتصرفات أبناء الطبقة المخملية من السعوديين واستعراضهم بسياراتهم الفارهة وخدمهم. وفي رأيي أن المؤلف قد وجد في هذا الموضوع مخرجاً من تقليدية الرواية وأحداثها. وقد نجح في تعرية أثرياء المجتمع السعودي وتصرفاتهم الممجوجة التي يقابلها أصحاب المقاهي باستغلال فاضح يبدأ من فرض مبلغ مالي كبير لحجز طاولة، ولا ينتهي عند مبالغ مجزية توزع على النادلين؛ فضلاً عن الأسعار الخاصة التي لا تتضمنها القائمة العامة للأسعار.
في الرواية إشارات لطيفة لجوانب إنسانية مثل مشهد كبير السن الذي يأتي في وقت مبكر من الليل ليحجز الطاولة لسيده وأصحابه، ويظل ينتظر إلى ما بعد منتصف الليل في ملابس مهلهلة لا تقيه لسعات البرد، وحين يأتي (عمه) لا يقابل ذلك المجهود بغير السخرية منه. ومثل عرضه لمعاناة النادلة التي تعمل أكثر من نصف ساعات اليوم فلا تجمع ما يعادل ثمن حذاء الفتاة السعودية المترفة.
وتأخذ الحماسة مؤلف الرواية ليسلط الضوء على تصرف بعض الفتيات بإساءة بالغة لهن، فيصورهن يجلسن في المقاهي لاصطياد الرجال الأثرياء، ويجعله ذلك يستطرد في وصف تلك العملية بمسماها المتعارف عليه محلياً (خرفنة) المأخوذ من لفظ (خروف) أي أن الفتاة اللعوب تقود الرجل كما تقاد الخرفان.
لغة الرواية عربية فصيحة سليمة، لكنها توارت خلف الحوارات الطويلة التي جاءت باللهجة العامية.
** **
- سعد عبدالله الغريبي