د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
شُغل الإنسان على مدى تاريخه بقضية الموت وما بعد الموت.. فالموت كهاجس نفسي إنساني لا يرتبط فقط بنهاية الحياة، بل بالحياة ذاتها من بدايتها لنهايتها إذ إن التفكير المتواصل في الموت والخوف منه والتفكير فيما بعده يشكل الحياة ذاتها من الناحيتين النفسية والاجتماعية. وانشغلت جميع الحضارات قديمها وحديثها بقضية ما بعد الموت. الحضارات الشرقية البوذية والهندوسية، على سبيل المثال، تنكر الموت كما نعرفه نحن من أجل حياة أسعد، وترى أنه الفناء للجسد فقط أما الروح فتنتقل لجسد جديد متجدد يمنح صاحبها حياة جديدة، وهنا تتناسخ الحياة وتستمر. أما الحضارات الوثنية القديمة كالفرعونية والأنكا فكانت تؤمن بإعادة بعث الناس من جديد، يبعثون كما كانوا من قبل، النبلاء نبلاء والعبيد عبيد، ولذا كانت تقبر مع الملوك كافة ممتلكاتهم التي تدل عليهم في أضرحة كبيرة، وتشهد المقابر الفرعونية على طبيعة حياة أصحابها بشكل إعجازي بسبب ما يدفن معهم. أما الديانات الموحدة: اليهودية، والمسيحية، والإسلام فترى أن الإنسان يبعث من جديد في يوم النشور لحياة أخرى أبدية من أجلها يحاسب على كل ما فعله في حياته الأولى. فالمسيحية ترى أن الإنسان يولد وهو يحمل خطيئة آدم الأبدية، وعليه أن يعيش ليكفر عنها. أما الإسلام فله رؤية للحياة الآخرة أكثر وضوحًا وأكبر أهمية، وترى أن الله خلق عبده ليعبده.
وتشكل وعي المسلمين على أن الحياة الأولى مقدمةً واختبارًا فقط للحياة الآخرة التي يحاسب فيها على كل ما اقترفه من ذنوب، ويكافأ على كل ما قدمه من حسنات وعبادات. والاختلاف بين الحسنة والسيئة واضح وجلي في القرآن، وصاحبه فيما بعد كثير من التفاسير المتوسعة من السنة ومن بعدها الخلفاء الراشدين والسلف الصالح. ويرى بعض المؤرخين أن النزاعات السياسية الإسلامية أثرت في رؤية المسلمين لبعض جوانب الخير والشر، حيث اختلقت بعض الأحاديث والسير المختلف على صحتها ونسبتا لأهلها، فتغيرت كثيرًا رؤية المسلمين للتعايش بتفرق الإسلام إلى مذاهب وطوائف، وبسبب الاستغلال المذهبي والطائفي للإسلام، فتغيرت مع ذلك بعض مفاهيم الخير والشر، والمعروف والمنكر، والحسنات والسيئات، وكل ما يتبع ذلك مما يؤدي في الآخرة وإلى الجنة أو النار. ومع أنها اتفقت على أن السعادة الأبدية الخالدة هي في الجنة، والجحيم والعذاب المخلد هو في نار جهنم. الاختلافات المذهبية المتراكمة شكلت ثغرة ولجت منها الاجتهادات والفتاوى الذي حظيت بأهمية خاصة في الجانب الفقهي.
اليقين المطلق بالحياة الآخرة، لم يمنع الاختلاف حول أفضل السبل المؤدية للجنة، ومع بروز التطرف والتنطع ومحاولات التطهير المتكررة عبر التاريخ، ومع تخلف الشعوب وتفشي الأمية في بعض الحقب، احتكرت قلة متفقهة أمور تفسير الدين، فظهرت طبقة من الملالي والأئمة لعبت دورًا مهماً في التاريخ الإسلامي. وأصبح التبصر في أمور الدين فرض كفاية يقوم به البعض وعلى العامة أو الدهماء السمع والطاعة. وبما أن الإسلام أعلى من شأن الجهاد والشهادة من أجل الدفاع عن النفس والعرض والدين، وبما أن الشهداء يذهبون للجنة وتُكفر عنهم كافة ذنوبهم فقد تم التلاعب بمفهوم الشهادة كأقرب طريق للجنة واستغل لذلك الإحساس بالإثم بالذنب والخوف من العقاب مع الرغبة في الخلاص الأبدي والذهاب على الجنة لأغراض سياسية. فقادت هذه الرغبة الملحة في الخلاص شباب في عنفوان عمرهم وحماسته إلى الاصطفاف خلف الملالي والمشائخ ليهدونهم إلى الطريق الأقرب والأقصر للجنة. وما زاد يقين هؤلاء الشباب الجهاديين بالذهاب للجنة هو الاعتقاد بأن الله يكافئهم على نياتهم وأن وزر الخطأ في ذلك، لو كان في ذلك خطأ، يقع على من أفتى لهم. وهكذا ركب معظم الشباب المتدين المتحمس، سنة وشيعة، من فجر الإسلام حتى اليوم موجات الحروب الجهادية، والقاسم المشترك بينها هو عقيدة الطاعة العمياء للقادة.
وباختصار يمكن القول إن التعليم التلقيني، والانتقائية في قراءة التاريخ هما عنصرا الطاعة العمياء لأشخاص الولي الفقيه مثل خمينائي، أو السستاني وخوض الحروب تحت امرتهم إن بحق أو غير وجه حق، وهو ما دفع شباب السنة للطاعة العمياء لما يسمى بأمير المؤمنين كابن لادن والبغدادي. فالطريق للجنة يمر بهؤلاء كما يعتقد. والجنة تعني اليقين بما بعد الموت والانتقال لحياة أبدية لا موت فيها. هذه الأفكار حول الخلاص الأبدي التي تبدو بسيطة هي خلف معظم أطروحات الحروب الطائفية التي تبدو معقدة.