م. خالد إبراهيم الحجي
لقد لاحظ ثورستين فيبلن عام 1920م، عالم الاجتماع والخبير الاقتصادي الأمريكي، تأثير الصناعات التكنولوجية على المجتمعات واستنتج أن الابتكارات التكنولوجية الحديثة التي تطبق على نطاق واسع بما فيه الكفاية تؤدي إلى تغيير القيم الثقافية، والسلوكيات الاجتماعية. ويتضح ذلك من الأمثلة التالية:
(1): اختراع الآلة البخارية التي أدت إلى مَيْكَنة ومَرْكَزَة عمليات التصنيع؛ فأحدثت تغيرات تدريجية في التركيبات الاجتماعية في أوروبا، أهمها تلاشي طبقة النبلاء (الطبقة البورجوازية) وظهور طبقة عمال المصانع (طبقة البلوروتاريا).
(2): اكتشاف الكهرباء وجميع الأجهزة التي تعتمد عليها، وتأثيراتها الواضحة على المجتمعات البشرية، فأصبح من الممكن إنتاج الطاقة في مكان واحد ونقلها مسافات طويلة إلى المستفيدين؛ فأدت إلى جودة الحياة والرفاهية الاجتماعية.
(3): عصر الإذاعة والفضائيات الذي يخاطب جميع الأفراد والمجتمعات في وقت واحد؛ فأدى إلى الانفتاح على جميع المجتمعات والثقافات والحضارات، والتغيير التدريجي في العادات والتقاليد، مثل: إذاعة صوت أمريكا التي أثرت على المجتمعات والشعوب الواقعة تحت سيطرة الاتحاد السوفيتي؛ فأظهرت محاسن الرأسمالية، وفضحت مساوئ الاشتراكية وحاربت الشيوعية؛ فأسهمت في تفكيك دول الاتحاد السوفيتي عام 1992م.
(4): اكتشاف الإنترنت لتقنية المعلومات، العحود الفقري لأشكال الاتصال والتواصل والترابط الرقمي بين الناس والإنترنت، مثل: البحث في جوجل، أو بين الناس مع بعضهم مثل (السوشال ميديا) وسائل التواصل الاجتماعي، أو بين الناس والأجهزة الإلكترونية الذكية مثل التحكم بالدرون، أو بين الآلات وأجهزة الذكاء الاصطناعي (إنترنت الأشياء) وهو قدرتها على التجاوب المناسب والتعامل التفاعلي الصحيح مع بعضها البعض بما تقتضيه المواقف والأحوال دون تدخل الإنسان، مثل: تعامل السيارات ذاتية القيادة مع بعضها البعض ومع إشارات المرور، أو مخاطبة الثلاجات الذكية بالجوالات الذكية لمعرفة محتوياتها من الأطعمة الناقصة. أو ضبط التكييف المنزلي بواسطة الهاتف المحمول.
(5): السوشال ميديا مثل الفيسبوك، التويتر، اليوتيوب، الواتسأب، الإنستجرام، والسناب، وغيرها من وسائل التواصل الأخرى بواسطة الجوالات والأجهزة الذكية المحمولة التي أدت إلى بناء علاقات اجتماعية وصداقات افتراضية، وزيادتها وكثرتها، وتسببت في إنشاء الجروبات لإرسال الصور، والرسائل الصوتية، والفديوهات التي أضعفت العلاقات الاجتماعية الحقيقية بين أفراد الأسرة الواحدة، وبين المعارف والأصدقاء والأقارب.
(6): الألعاب الإلكترونية التفاعلية التي تتصل بالإنترنت، مثل: لعبة البكمون والفورت نايت، والحوت الأزرق التي أصبحت ظاهرة شائعة، وانتشرت انتشاراً واسعًا في كل المجتمعات، وأغرقت جميع الأسواق بأنواعها المختلفة، ودخلت أغلبية المنازل، وجذبت اهتمام جميع الأطفال والمراهقين من الباحثين عن التسلية والمتعة، وأصبحت الشغل الشاغل لهم، ويقضون معظم أوقاتهم أمامها، ولا يستطيعون الاستغناء عنها؛ لأنها جذبت انتباههم وأخذت تركيزهم وفاقت حد التسلية والترفيه إلى حد الإفراط والإسراف وضياع الوقت والإدمان.
(7): ثورات الربيع العربي التي كان بالسهولة إبطالها أو حتى وأدها في مهدها، لولا الأجهزة المحمولة والسوشال ميديا التي بواسطتها أصبح المزيد من الناس قادرين على التحدث والمشاركة في الحركات الاجتماعية أكثر من أي وقت مضى، واتخذت النشاطات الاجتماعية أشكالاً جديدة حملت شعارات سياسية حولتها إلى محركات قوية ومحفزة دفعت الجماهير إلى التظاهرات والاحتجاجات ضد الأوضاع الراهنة للحكومات القائمة. ونرى اليوم نسخة مكررة من ثورات الربيع العربي في هونج كونج، متمثلة في الانتفاضة الشعبية التي انفجرت ضد هيمنة الحزب الشيوعي الصيني.. ومثلها الاحتجاجات الشعبية ضد فساد الحكومة العراقية والتدخل الإيراني في شؤونها الداخلية، وكذلك الاحتجاجات اللبنانية ضد فساد الحكومة اللبنانية بجميع فروعها ومؤسساتها، وتبعتها الاحتجاجات الشعبية في بوليفيا التي أجبرت الرئيس إيفومور أليس على الاستقالة ومغادرة البلاد بعد أقل من شهر من انتخابه.. وآخرها وأقواها الانتفاضة الجماهيرية في التي بدأت في مدينة سريان في وسط إيران بسبب رفع أسعار الوقود، ثم انتشرت في جميع المدن الإيرانية، وتجاوزت نطاق أسعار الوقود إلى مظاهرات شعبية واحتجاجات عارمة، بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية، والعداء الشعبي للحكومة الإيرانية بسبب توظيف الموارد المالية في تمويل المليشيات العسكرية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وصلت إلى حد حرق صورة المرشد الأعلى خامنئي نفسه مع شعارات المحتجين التي تطالب بإسقاط النظام، وقامت الحكومة الإيرانية بفصل خدمات الإنترنت لتعطيل التواصل الاجتماعي بين المتظاهرين قبل استعمال العنف معهم.
الخلاصة:
إن التكنولوجيا تشكل القيم الثقافية، وتغير السلوكيات الاجتماعية، وتعمل على تآكل العادات ولتقاليد الاجتماعية.