د. خيرية السقاف
يتألم الإنسان، ولا يتأمل، ولا يتفكَّر في الألم، ما هو، ما حقيقته؛ كياناً غامضاً، مُداهناً، مداهماً، غريبا؟!..
هذا الإنسان المألوم كيف يتألم، دون أن يُعطي أمراً للألم بالحضور فيه حين تكون أفعاله ضمن وظائفه الذاتية ما هي إلا استجابات لأوامر رغباته؟!
إلا الألم،..
فالإنسان يتألم، وتوخذه محرضات خفيَّة فيه ليشعر بنزول الألم فيه، وحلوله في داخله..
إن المرء حين يكون النازل به بشراً، وهو لا يرغب فيه، قد يتجاهله، وقد يُجمِّد ملامح التعبير في وجهه، وقد يحمل نفسه ويتوارى بعيداً عنه، وقد لا يفتح له باباً، ولا يجيب له هاتفاً،
بيد أن الألم حين يحل به، ويرخي عتاده لديه، وينيخ حمولته في مكنون نفسه، فإن هذا البشر لا يملك باب جوفه فيغلقه، ولا ملامح ناطقة فيجمدها، ولا يقوى على الابتعاد عنه كلية، أو التخلص منه..
يسمعه قسراً، ويستقبله بلا إرادة، ويحل به فارداً ذراعيه، متكأً حيث يشاء من قلبه، وفكره، ووجدانه!..
الألم الذي لا يكون عن شق في الجسم، أو تدفق دم عرق فيه، أو كسر عظم،..
الألم الصامت الصارخ، الخفي المحرِّض، النازل بعنوة، والمهيمن بقدرة،
كيف هو؟!..
الألم الذي ليس عن المرض فالأنين، والآهات..
ولا عن الجروح فالبكاء، والتلوّي..
الألم الذي يعجزه عن بلوغ ماهيته، كيفيته، وجوهه الملونة، وقدته الحارقة، هيلمانه الضاج في جوف هذا الإنسان، الألم ذو القوة الناعمة، الذي يسري كالماء في العروق، يحمل المرء كمركبة في ثنايا الفضاء، يغوص به كماء محيط تتجاذبه النواهش، وتغوص به الخفايا الداكنات..
هذا الألم وحده حمم كتلك التي يزجها بركان ناري فتتهاوى على المساحات في جوفه..
يهرب الناس من حمم البركان، بيد أنهم لا يقوون على حمم ألم نازل بهم وهم لا يرغبون فيه، لكنهم لا يقوون على التخلص منه..
فكل حي ناطق موهوبة له الروح، والعقل عاجز عن إدراك ماهية ألمه،
مع أنه يسِمَه بالوجع، يعلله بالحزن، يبرره بالفقد، بؤوِّله بالشوق، يموسقه بالحنين، يسبِّبه للخيانة، والخيبة، والخذلان.
وهو مُعلٍ وتد خيمته في جوفه، مفترشٌ أديم داخله، منيخ ركابه..
وليس هو آهة حرَّى، ولا وخز حاد، ولا انقباض خفي في المكنون،
ولا الصرخة صوته، ولا الصمت وشاحه، ولا الدمعة منبره،
بل هو النازل الخفي، الساكن، الفارض..
مُعجز الإنسان عن لمسه، ورؤيته، ومعرفته!..