د.عبد الرحمن الحبيب
الرئيس الصيني شي جين بينغ يريد أن يصبح أقوى زعيم لأقوى دولة في العالم؛ لتحقيق ذلك يحاول دمج سرديات تستعصي على الاندماج : كتاب ماو الأحمر الشيوعي مع كتابات كونفوشيوس الصيني التقليدي، المزارعين الكادحين مع الأثرياء المنعمين، كفاحه في كهوف شنشي المظلمة مع إدارة أبراج شنغهاي المتلألئة .. والأهم من كل ذلك دمج سياسات الحزب الشيوعي الصيني مع أساليب الاقتصاد الرأسمالي، للحفاظ على توجهات الأيديولوجية الماركسية ذات الخصائص الصينية، مع تحدي القيم والمفاهيم الغربية!
فماذا تخبئ هذه الشخصية العجيبة ؟ وهل النظام الصيني يدور حوله وحده ؟ هل الصين ستقود العالم، وتصبح أرض «دكتاتورية السوق الجديدة» ؟ هل سيكون هذا ثمن الحلم الصيني ؟ هل سيحقق «شي» هذا الحلم ؟ ذلك ما يسعى إلى كشفه كتاب فرانسوا بوغون «داخل ذهن شي جين بينغ» (Inside the Mind of Xi Jinping)، الذي ترجم للإنجليزية عن الفرنسية. المؤلف كان مراسلاً لوكالة الصحافة الفرنسية بالفترة 2005 إلى2010، ومتخصص بالدراسات الآسيوية.
يرى بوغون أن «شي» هو رجل نهضة صيني، يتمتع بثقة طاغية بالنفس وبثقافة واسعة، وهو متمكن وقادر سياسياً، وأيضاً ديكتاتور مستبد بلا مواربة. وعلى الرغم من أن شي خريج الهندسة الكيميائية، إلا أنه يقدم نفسه كأديب متعمق بالأدب الغربي، فضلاً عن تعمقه وعشقه العارم للتاريخ الصيني، لكنه حريص أيضاً على تقديم نفسه كرجل المستقبل.
الكتاب يمثل سيرة ذاتية للزعيم الصيني متناولاً جوانب تاريخية وسياسية وشخصية له لكن ليس بتسلسل زمني بل من خلال منظور موضوعي، وتحليل لفكر وفلسفة شي بناءً على كلماته وخطبه، رغم استخدامه لمصطلحات شخصية، مثل : «ابن الأرض الصفراء»، الأسطورة الوطنية الماوية»، «الرفيق كونفوشيوس».
شي يُكثر من اقتباسات الفكر الصيني التقليدي ليس لمجرد الاستعراض، بل للدلالة على أن التاريخ العريق للحضارة الصينية يمكن تطعيمه بالقاعدة الصلبة للماركسية اللينينية؛ وأنه يمكن للعضو بالحزب «أن يكون ماركسياً فخورا وبنفس الوقت فخور بالثقافة الصينية التقليدية». يرى بوغون أن تلك هي السمة المميزة لشعور شي الداخلي بالهدف.
ومن هنا ينسج «فكر شي» خيوط تاريخ الصين وتراثها مع حاضرها في نسيج واحد، مما جعل البعض يطرح مصطلح «الشيوية» (Xi-ism). وبغض النظر عن الشك بوجود هذا المصطلح في علم السياسة، إلا أن ثمة نقاشاً حوله على نطاق واسع بالدوائر الأكاديمية الصينية؛ ففي نقاش المؤتمر 19 للحزب (2017) تمت الموافقة على وضع «أفكار شي جين بينغ الاشتراكية مع الأنماط الصينية لعصر جديد» في الدستور الصيني. لذا، أصبح شي أول زعيم بعد دينج شياو بينج يدخل اسمه في أيديولوجية الحزب، بغرض وضع علامة الدخول لعصر جديد مع «مجتمع مزدهر تصبح فيه الصين، مرة أخرى، قائدة اقتصاد العالم كما كانت في سالف العصور .. وسيتم الاعتراف بنجاحاتها الاقتصادية المذهلة وتقديرها في كل ركن من العالم.»
ينتقل الكتاب من الجزء السياسي إلى الجزء الشخصي حيث شي متعلق عاطفياً بالزعيم ماو وعصره، وحنينه إلى الماوية .. يربط شي الصين الجديدة بالسنوات السبع التي قضاها في شبابه مع الفلاحين في يانان، باعتباره شابًا ثورياً وابن قيادي بالحزب (خُلع والده لاحقاً وعانت أسرته الأمرَّين، قبل أن يرد له الاعتبار) .. وقد وصف وقته في الزراعة في يانان بأنه «سبع سنوات من الحياة الريفية أعطتني شيئًا غامضًا ومقدسًا». هذه التجارب كونت الأساس الصارم للمواقف السياسية اللاحقة لشي، وقناعته بوجوب أن يقدم الحزب للشعب الصيني المثل العليا التي تستحق التضحية من أجلها، مع شعوره بالانزعاج الشديد لأن روح التضحية مفقودة عند الجيل الجديد من أعضاء الحزب.
ويهتم شي بتكريس صورة الأبطال الأسطوريين الذين صنعتهم الدعاية الماوية في طفولته، وضرورة استخدامها بالمجتمع الصيني للبقاء والازدهار في عصر المنافسة الدولية الشديدة.
وهنا ننتقل إلى العلاقات مع الآخر ومواجهة «القوات المعادية» داخل وخارج الصين والتي من شأنها إضعاف ثقة الناس بالنظام السياسي والأيديولوجي الذي يرأسه شي .. يسلط بوغون الضوء على خطاب ألقاه شي عام 2009 باعتباره بيانًا مهمًا عن معتقداته : «هناك بعض الأجانب المدعومين جيدًا ليس لديهم ما هو أفضل من توجيه أصابع الاتهام. ومع ذلك، أولاً، الصين ليست هي من يصدر الثورة.» (تانر جرير).
تصدير الثورة كان من أبرز آفات الاتحاد السوفيتي، حسب شي، مؤكداً أن أمريكا والقوات المتحالفة معها دمرت بنجاح الحزب الشيوعي السوفياتي من خلال استراتيجية تخريب ثقافي. شي عازم على عدم السماح لنفس المصير بأن يلحق بالحزب الشيوعي الصيني. أصبح شي «محاربًا للثقافة»، حسب تعبير بوغون، الذي يرى أن هذا هو الدافع وراء قمع ومراقبة النشطاء والطلاب والمنشقين والمسؤولين السابقين والمنافذ الإعلامية باللغة الصينية خارج حدود الصين .. «تنتشر الثقافة والأيديولوجية عبر الحدود، لخوض حربه الثقافية، يجب أن تبقى اليد الحديدية للدولة الشيوعية».
مؤلف الكتاب يقدم رؤية عميقة في عقلية الزعيم الصيني وطموحاته واستراتيجيته لفهم صعود الصين في المشهد الدولي وآثارها على النظام العالمي، وإن كان المؤلف لا يقدم إجابات عن كثير من الأسئلة إلا أنه يترك للقارئ استلهام الإجابات من خلال سرد مميز لهذه السيرة الذاتية.