د.فوزية أبو خالد
أتناول في هذا المقال بعد تأجيل طويل الفيلم الوثائقي السعودي عن المفكر الفلسطيني الأمريكي العالمي إداورد سعيد. وأطرحه عبر ثلاث وقفات هي على التوالي:
الوقفة الأولى
فيلم وثائقي ومحتوى حضاري:
إن هذا الفيلم يُخرج المحتوى الإعلامي السعودي من المحلية للعالمية وذلك بالمعنى المعرفي للكلمة وليس بالمعنى الدعائي. ولتوضيح هذه الأهمية لا بد من التمييز بين العالمية بمعناها المعرفي و»العالمية» بمعناها الدعائي.
فالعالمية بمعناها الدعائي هي ذلك الموقف والسلوك الاستهلاكي الذي يستخدم شعار العالمية كحلية تسوقية للاستشهاد برضا «الغرب» عنا أو بقدرتنا على الحصول على قبوله لنا أو بنا إما عن طريق دورياته التصنيفية «المرأة أكثر تأثيراً» أو « الرجل الأكثر حصافة» ... إلخ، أو عن طريق شهادات اعتماد مشابهة لبعض الأعمال أو المؤسسات أو حضور بالمال في بعض المحافل ... إلخ.. وبما لا يتورّع في غالبيته عن اختصار العالمية في تمثيل أحادي هو «الغرب».
هذا فيما العالمية بالمعنى المعرفي هي عكس ذلك لانشغالها عن الجانب الدعائي في العلاقة بالآخر بسؤال البحث والاستكشاف على تعدد منابعه خارج عقد النقص أو عقد الاستعلاء الشوفيني الذي لا تخلو منه عادة العالمية بمعناها الدعائي.
ولهذا فنحن نرى في هذا الفيلم الوثائقي السعودي محتوى خالياً من كولسترول تمجيد الأنا الوطنية بالمعنى العنصري كما أنه خال من التمجيد الضمني للآخر والذي لا يكون بطبيعة الحال إلا مصحوباً بالتبخيس الضمني للذات, وذلك ببساطة لأن العمل على ما يبدو لا يريد أن يدّعي بطولات دعائية، بل يريد البحث عن القيمة المعرفية في التواصل مع الآخر ليس إلا. وهذا بحد ذاته كان كفيلاً وإن لم يكن ربما من ضمن أهداف الفيلم إلى تقديم صورة مشرقة عن الشباب السعودي بما بدا واضحاً من بعض التعليقات على الفيلم، حيث لفتت بعض التعليقات نظري لهذا النقطة من خلال قول بعضها «كان مفاجئاً ومدهشاً أن أتعرّف على سيرة حياة شخصية عالمية كإدوارد سعيد من خلال عيون سعودية، حيث المخرج والمنتج والكاميرا ومن قام بالمقابلة من جيل الديجتال السعودي»
الوقفة الثانية
إدوارد سعيد من خلال امرأتين وقصيدة:
يخرج هذا الفيلم أيضاً على عادة الأفلام الوثائقية التي كثيراً ما تبحث في المتعارف عليه والمعترف به لمحتواها. فيغامر الفيلم في استنطاق تلك السيدة التي عادة ما تكون سيدة الظل بجعل مصبات الضوء أمامها وليس خلفها فتنجو الصورة من سلطة الضوء الذي كان مسلطاً على إدوارد سعيد وحده أو عليه وعلى كتاب الاستشراق وكتبه الأخرى وتدخلنا إلى نور عتمة الحياة اليومية لإدوارد سعيد بصوت وصورة مريم سعيد زوجة إدوارد سعيد. لم تكن السيدة مريم كما يكشف الفيلم مجرد زوجة في حياة إدوارد سعيد، بل كانت رفيقة درب كما تكشف معرفتها الدقيقة بكتابته وإيمانها العميق بقضيته، ولا أقصد فقط قضيته كفلسطيني، بل قضيته كمفكر عالمي متعدِّد الهويات. واللافت في الفيلم هو تلك الأسئلة التي على ببسطاتها ورطت مريم في حديث ساحر عن ثلاثة مواقف على الأقل تكشف عن الطبيعة الإنسانية العفوية في حياة مفكر على ذلك القدر من العبقرية النقدية في الفكر والسياسية معاً. ومن تلك المواقف تردده في اتخاذ قرار التخصص؛ فقد واجه إدوارد حيرة بين تخصص الطب وبين تخصص الأدب وبين تخصص الموسيقى فلا يولد المفكر مفكراً، بل يصير مفكراً. وهناك أيضاً حديثها عن تفاجؤه بالاستقبال الواسع في الوسط الأكاديمي لكتّاب الاستشراق بما نقله صاحبه من أستاذ جامعي بدرجة أستاذ إلى باحث بدرجة مفكر كوني. هذا بالإضافة لحديثها عن جرحه النرجسي حين زار بيته في القدس ورفض دخوله بوجود محتليه. ولم يكتف الفيلم بمغامرة تقديم سيرة إداورد سعيد من خلال زوجته، بل أيضاً دخلت نجلاء ابنة سعيد إلى الفيلم لتقدم وجهاً آخر للسيرة وبذلك وضعنا هذا الفيلم الوثائقي أمام سيرة تعدّدت روايتها كما تعدّد رواتها. هناك سيرة إدوارد سعيد التي روتها كتابته بدءاً من كتاب الاستشراق إلى كتاب المثقف والسلطة وما بينهما من كتب وكتابات. وهناك سيرة إدوارد سعيد التي روتها مذكراته «خارج المكان» ورواها هو شخصياً عبر العديد من المقابلات. وأخيراً سيرة سعيد التي مازجت سيرة سعيد وهوياته وأوطانه وجروحه وملحه وخبزه وحبرها وصبتها في قصيدة محمود درويش الشاهقة.
الوقفة الثالثة وقفة نقدية
وأختصرها بأن الفيلم على نجاحه الجميل ورغم جرأته في اقتحام المجال الأسري المنيع عادة لحياة صاحب السيرة إلا أنه قد فشل في تقديم صورة إداورد سعيد العاشق وصورة إدوارد سعيد الزوج وصورة إدوارد سعيد الصديق وصورة إدوارد سعيد الموسيقي لا من حيث الصور ولا من حيث الصوت ولا من حيث الحكي أو طرح أسئلة غير محايدة أو غير مقتصرة على فكره وقضيته وذائقته الفنية..
ويبقى أن للفيلم سبقاً ريادياً في أنه على حد علمي أول عمل وثائقي سعودي عن شخصية عالمية يُضاف لعمل محمود صباغ عن الشاعر المبدع حمزة شحاتة, وعملي الوثائقي عن الشاعرة والناقدة والمترجمة السامقة سلمى خضراً الجيوسي. تحية لجميع أعضاء «فريق ثمنية» وللمخرج الشاب عبدالرحمن أبو مالح والمحاور ماجد الدوحان وللمزيد من الحضور السعودي العالمي بالمعنى المعرفي والحضاري. والشكر موصول للابن د. إبراهيم الدليجان الذي عرَّفني على إنتاج المجموعة.
سيرة الفتى مفتاح
الله يرحم ألأستاذ الرجل النبيل عبدالفتاح أبو مدين ويحسن إليه ويعظم أجر أسرته الكريمة وأسرة الثقافة والأدب والوطن.
كم كنت أعشق بساطة ذلك الرجل على عمقه وإخلاصه النادر.
«الغريب!» أنني كنتُ أفكر قبل أيام قليلة في مسيرته وأعزم على الكتابة عنه من باب الوفاء الضروري لمواقفه المضيئة مع الأدباء يوم كان يعمل بالنادي الأدبي بجدة.
وهنا أقترح على فريق ثمانية قراءة سيرة الأستاذ أبو مدين التي صدرت قبل ما يزيد على عشرين عاماً بعنوان «سيرة الفتى مفتاح» وتحويلها إلى فيلم وثائقي مع استعدادي شخصياً لكتابة السيناريو لهذا الفيلم «لو عزموا» على ذلك. فهي كما ذكر الدكتور عبدالواحد الحميد سيرة تستحق الاستعادة من قبل الأجيال على صدقها وعفويتها معاً.