يحاول الدكتور المسيري أن يعطي صورة حيّة لحياة الأمريكي الكابوي الذي يعيش على براغماتية مقنعة لا يحاول أن يغيرها فهو سعيد بها وبينما تعتبر جانب مهم من سيسيولوجية المجتمع الذي لا بد أن يتكيف معه فهو سر النجاح الذي يصاحبه دائماً بعد أن وجد ضالته في فلسفة الحياة الدائمة ولكنه ينزع أحياناً إلى التمرد الذي يمثّله الهيبي ولكنه تمرد وقتي فالمسيري يرى أن الهيبي يسكن فردوسه حين يخرج عن الذات البراغماتية والرأسمالية الجامدة التي تخلو من الروح ولكن الآن ليست كالستينيات والسبعينيات التي يرى فيها المسيري الهيبي يترك حياته المرفهة لينزل إلى شظف العيش بمزاج المستهتر والناقم على الحياة المادية فقد انتهى عصر الهيبي ولم يعد له ذكر وإن كان فهي حالة فردية نادرة وقليلة بحيث لا تُذكر ولها أسباب قد لا تكون منها الثراء والحياة وإنما العُقد الاجتماعية كالحب والمشاكل الزوجية والأسريّة. لا شك أن تلك الحياة المادية الخاوية من الروح ومن الأخلاق الدينية الأخروية ولّدت طقوساً وجماعات وحركات تبنّت اتجاهاً معاكساً للبراغماتية الرأسمالية محاولة كسر الجمود النفسي الذي أصبح كالجبل الجليدي الذي يحاول الرجل الأمريكي عبر خلق جماعات دينية على كسره أو كأقل تقدير ثلمه بمعول المقاومة النفسية التي يتولّد منها ارتياحاً للعمل الرأسمالي الذي ظل محتكراً الحياة الأمريكية عبر خزعبلات دينية عجيبة حتى داخل البيروتانيين البروتستانت، فالعقلية التجارية سايرت الوضع بالاستثمار الديني عبر يسوع والحركات الدينية حتى يومنا هذا نراه في السينما وليس المسرح فقط كعملية تكريس المنقذ المسيح لجعلها إيديولوجية تسعى إلى استحضار الدين كأيقونة اجتماعية روحية ولكن مع ذلك تفشل مع الحياة الماديّة الصرفة. ولعل المسيري حين قارن بين شخصيتين أمريكيتين بينهما تباعد في الرؤى الفردوسية أحدهما جيتو يهودي وهو علم من أعلام الصحافة الأمريكية وهو رئيس تحرير صحيفة كومنتري نورمان بودورتز وبين مالكوم لتل (أو إكس) كناشط سياسي واجتماعي أسود إنما أراد أن يبرهن أن الفردوس الأرضي يختلف عند كل واحد باختلاف الأيديولوجية الاجتماعية والدينية على أن كليهما أمريكيان فالأول فردوسه مادي مكوّن من الشهرة والمال وإن كان تعليمه في النشء ديني ولكن التلمود لم يكن أقوى من المال فلم يستطع أن يثنيه عن فردوسه الأرضي، والآخر فردوسه روحي مكوّن من الأخلاق والإيمان والدعوة ولعلّ الروف تجبر الأول الجيتو اليهودي أن يكون رأسمالي براغماتي والآخر ربما للمشكلة السوداء والعنصرية البغيضة لها دور في البحث عن أدوار تدعو للعدل والمساواة وهو بحث في التاريخ يكسر الجمود البراغماتي كلما حاول الإيغال في الدين الإسلامي الجديد والذي وجد ضآلته فيه كفردوس أرضي يوصله للفردوس الأخروي السماويّ بعد رحلة شاقة وسط محطات توقف عندها كثيراً حتى هداه تفكيره المنطقي في الوقوف عند الحقيقة التي لا تقبل الجدل ولكنه أبى إلا أن يحمل معه فردوسه المتنقل لكي يجاهد به البراغماتية العنصرية في بلاده وأن يكون الأوفرو أمريكي أحد ثوابت النهضة الأمريكية الحديثة .لربما هناك الكثير ممن كتبه المسيري عن الحياة الأمريكية تغير منها وخصوصاً مسألة حقوق المرأة وعملها داخل وخارج المنزل والعنصرية الملازمة للمرأة الزنجية وهاهي الآن قد انتهى فصلها الأخير ، والأسرة وصداقتها ومنها الرجل المتزوج فهو الآن يستطيع أن يكون صديقه أعزب بخلاف الأمس كل ذلك من الأمور الطبيعية التي تتغير مع تغير الزمن ولكن تبقى البراغماتية الرأسمالية شعاراً ودثاراً للأمة الأمريكية ترى من خلالها فردوسها الأرضي والمتمثل في الهيمنة والنفوذ وكذلك الفرد الأمريكي حين يرى فردوسه الأرضي الذي يتمثل في رغبته الجامحة في المال والجنس والتملك بعيداً عن التاريخ الذي يحاول أن يجد له إرثاً يقوده إلى الروح السامية والإيمان المفعم بالقناعة والدين المتبني للأسس الأخلاقية الصحيحة بحيث يكون تراثه العتيد بين الأجيال كأيديولوجية متصلة بين الماضي والحاضر والمستقبل دون أن يتوقع يوماً من الأيام أن يجد نفسه وحيداً قد أكلته البراغماتية ولم تُبقِ منه شيئاً كالاشتراكية الملحدة السوفيتية في القرن الماضي.
** **
- أحمد السبيت