يُطلعنا استقراء الحركة النقدية في واقعنا المعاصر على أن الهوة بين النقد الأدبي والنتاج الإبداعي المعاصر في ازدياد ملحوظ. فالناظر لحال النقد الأدبي قد يرى اتجاهات النقد تنحصر في صنفين من النقاد:
نقاد ألحت عليهم شروط البحث الأكاديمي العلمية أن يلتفتوا إلى تحليل العمل الأدبي من وجهة نظر فلسفية معينة وفقًا لنظريات ومناهج نقدية تراثية أو حديثة ومعاصرة. ومنجزات هؤلاء النقاد النقدية تنشر في مجلات نقدية محكَّمة ومتخصصة، يصل إليها عادةً المهتمون والمتخصصون فقط، والاطلاع عليها يرينا تحقيقها لنتائج نقدية موضوعية فريدة متى ما تحققت في الباحث شخصيته البحثية المستقلة ومجانبته للاستطراد وكثرة الاعتماد على النقول التي تطمس أو تحد بدورها من بروز شخصيته، ما يفضي بالبحث لأن يخرج دون محصول علمي. ومَن خرجوا بكتاباتهم من الحقل التخصصي إلى الصحف، فهي إلى حد كبير أقرب إلى أن تكون قراءات تنظيرية أو وصفية لإحدى قضايا المشهد الثقافي المعاصر.
وفي الضفة الأخرى نلتقي بنقاد آخرين لهم ممارساتهم النقدية، وما يتميزون به أنهم لا يولون كبير اهتمام لنظريات النقد الحديث ولا القديم ولا التزامًا بقيودها. وينشر هؤلاء النقاد كتاباتهم في الصحف والمجلات اليومية، وقليل بل نادر منها الذي يلامس تقويم تجربة إبداعية معاصرة، وإن وجد، فهو عادة ما يكون نقدًا انطباعيًّا خفيفًا لانتقاءات محددة، وهو ما أحال الكتابة النقدية إلى وصف أو قراءة سريعة للتجربة.
ومن هذا قد نستجلي أن النقاد الأكاديميين يعملون، وأصحاب الممارسات النقدية يكتبون، والصحف تفيض بمقالات وقراءات لهؤلاء وهؤلاء، ولكن لا نكاد نرى بين هذا كله تقويمًا ولا تصويبًا، فكلٌّ من الطرفين منشغلٌ بمقصده من الكتابة. ولحقيقة أكثر جلاءً فالفريقان معًا لا يجيبان في ما كتبوه عن ماهية العمل الأدبي ولا عن قيمته، وتكاد تخلو جل كتاباتهم من وجود حكم تقييمي أو تقويمي لأيٍّ من التجارب النقدية الحية.
وعمارة الإبداع -عزيزي القارئ- لا تكون بالعرض التنظيري لما في الكتب، ولا يستقيم عوجه بالقراءات النقدية الخفيفة -إن وجدت- في الصحف، بل بتقديم الرأي الصادق والجريء لتظل النصوص حية لأزمان ونبضها يسمعه كل من اقترب منها، لا أن تشتعل جذوتها بالهالة الإعلامية التي تصاحب (قالبها الإلكتروني) وكاتبها، وما تلبث أن تنطفئ سريعًا، ولا يبقى من ذكرها إلا تلك الهالة التي صاحبتها عند خروجها إلينا أول وهلة.
فالمشهد النقدي إذًا بحاجة إلى حضور المثقف الشجاع وهو من يمتلك ثقافة وموقفًا معًا، فلا يصمت ولا يجامل في مصلحة التجربة الإبداعية؛ يفتش في جوانبها الفنية ويعالج. المشهد يا سادتي بحاجة إلى ناقد مثقف جريء لا ينحاز لحزب أو شللية، يقرأ للمبدع والمبتدئ، للحديث والقديم، لا تأخذه هالة اسم ولا احتفاء مبالغ، ولا تقيده أيديولوجية معينة، ولا يخضع لقالب نقدي محدد، ولا تعزله المدارس النقدية الحديثة والمعاصرة عن مسايرة التجارب النقدية الحية، ومعالجتها واستخلاص أسباب جمالها أو استهجانها.
ومن أبرز ما أتذكر هنا، هو النقد الذي قدمه الدكتور سامي العجلان في تويتر لنموذج من شعر الشاعر الكبير جاسم الصحيِّح، واحتفاؤه أيضًا في السياق ذاته بنماذج كثر أخرى كانت مستحقة للاحتفاء، ليكون -في رأيي- أحد الأمثلة الحية لنقد المثقف الصادق الشجاع. فمما جاء في نقد د. العجلان، قوله: «شعر جاسم الذي أعرفه أرقى بكثير من هذا التصوير البلاستيكي الذي لا روح فيه.. الشعر أعمق من أن يكون بهجةً للحواس النافرة، ورنينًا مخاتلًا من الكلمات الموقَّعة والألعاب اللفظية التي لا تقول في نهاية المطاف شيئًا جديدًا»، وهو نقد قوبل بترحيب كبير من مبدع يعلم يقينًا أهمية النقد الأدبي الصادق وقيمته للعمل الأدبي، ليرد قائلًا: «يسعدني أن أتلقى رأيك حول ما أكتبه. أنا أعتقد أن النقد الذي يقوم على الحب كما هو نقدك، هو من صالح الشاعر حتى وإن جاء في صيغة قسوة على كتابات هذا الشاعر».
يبهرني هذا المشهد النقدي هنا بجماله، انظر كيف فتحا النقد وتلقيه معًا، أفقًا رحبًا لعودة روح النقد الأدبي ووهجه إلى ساحته مجددًا. وحضور هذا المشهد النقدي وتكراره بين النقاد والأعمال الأدبية ومبدعيها سيسهم في ردم الهوة المتفاقمة بين الناقد والعمل الأدبي المعاصر، وفي بعث روح التقويم والنقد، كما سيسهم في نبذ المجاملات والاحتفاء المبالغ، ليصل النقد الأدبي إلى هدفه من جديد -كما كان عند نشأته- بعد طول فراق.
** **
إبراهيم المرحبي - أكاديمي وباحث دكتوراه في الأدب الحديث والنقد