د.عبد الرحمن الحبيب
من أبرز ما يميز الحركات القومية هو شوفينيتها (تعصبها) وتنافرها مع القوميات الأخرى إن لم يكن عداءها لها؛ وأكثر ما ينطبق ذلك على القوميات الأوربية التي دخلت في حروب منذ القرن التاسع عشر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية؛ وبعدها فقدت الإيديولوجيات القومية مصداقيتها وتضاءلت شعبيتها لما جرته من ويلات على أوربا وعلى العالم أجمع.. إلا أن البرجماتية السياسية تضطر هذه الحركات للتحالف التكتيكي كما حصل ذلك أثناء الحرب العالمية الثانية بين الفاشية والنازية.
الآن تتكرر التحالفات التكتيكية بسيناريوهات جديدة؛ فرغم أن الحركات القومية كانت تطالب دولها بالخروج من الاتحاد الأوربي بزعم أنه ذوب هويتها وشوهها، ورغم أن أغلب القوميات يزدري بعضها البعض وكل منها يدعى التفوق العرقي والحضاري على الآخر، ها هي تتراجع (تكتيكياً) عن المطالبة بالخروج من الاتحاد الأوربي وتتكاتف مع بعضها وتتشكل في جبهات «هشة» داخل هذا الاتحاد لتعديله من داخله عندما فشلت في إلغائه من خارجه.
هذا التحول تشكَّل بعد تدني شعبية المطالبة بالخروج من الاتحاد الأوربي؛ ففي استطلاع يوروباروميتر (يونيو 2019)، فضل فقط 32 % من سكان الاتحاد الأوروبي، الانسحاب من عضوية الاتحاد الأوروبي. السبب الرئيسي لانخفاض شعبية المطالبة بالخروج من الاتحاد الأوربي هو نتيجة لما يحصل لبريطانيا من إشكالات خلال إجراءات خروجها.
بالمناسبة، الخروج البريطاني لم يكن أساساً بدواع قومية، بل لأسباب اقتصادية، حيث يرى كثير من البريطانيين أنهم تضرروا اقتصادياً من هذا الاتحاد الذي يسمح بحرية حركة الأشخاص داخل الاتحاد الأوروبي، فقد تجد بلدات بريطانية تسيطر عليها العمالة الرخيصة من شرق أوربا حين يحصل مواطنون من دول فقيرة مثل رومانيا وبلغاريا على وظائف البريطانيين (جيمس بلودورث).
نعود إلى تحوّل مواقف القوميين الذي أدى إلى تحوّل في شعار الهوية من قومية وطنية إلى قومية أوربية: مسيحية بيضاء وعنصرية نقية عرقياً كما ذكر فلوريان بيبر، أستاذ التاريخ والسياسة ومؤلف كتاب «مناقشة القومية: الانتشار العالمي للأمم». يذكر بيبر أن القوميين والشعبويين كانوا يرفضون الاتحاد الأوروبي ويعارضون التكامل داخل مؤسساته وقد حققوا نجاحات كبيرة. كانت القوميات الأوربية تعادي بعضها البعض، لكنها الآن تتبنى نظرة أوسع تركز على أهمية الثقافة الأوروبية والشعور بالهوية القومية لعموم أوروبا (التي غالباً ما تتجلّى في القومية البيضاء) التي يتم حشدها ضد السكان المهاجرين المتزايدين خاصة المسلمين منهم، واستغلال شعور «الإسلاموفوبيا».. فبدلاً من قومية وطنية أصبحت قومية أوربية، رغم أنه لا تزال نسبة كبيرة منهم تؤيد الأولى وترفض الثانية.
لماذا هذا التحول من القوميين الأوروبيون؟ يقول بيبر: أولاً: يساعد استخدام الصفة الأوروبية في جعل المطالب المتطرفة أكثر قبولاً وأقل استبعادًا، ولكيلا تربط بالنازية والفاشية. وبدلاً من استخدام الخشية من تهديد بعضها البعض تم استخدام القادمين من خارج القارة (المسلمين) وبدت جاذبية فكرة أن الإسلام يشكل التهديد الأكبر أسهل قبولاً. إنما العنصر الأهم لهذا التحول هو التحديات الجسيمة التي تواجه بريطانيا بخروجها من الاتحاد الأوروبي، مما نفر كثير من المطالبين بالخروج من الاتحاد وتراجعوا عنه، وفقدت شعبيتها.
بالطبع لا يعني هذا أن الهدف المشترك بين القوميين الأوربيين يتخطى الأهمية القصوى للقومية المحلية لكل بلد؛ فمثلاً يذكر بيبر، عندما وقَّعت فرنسا وألمانيا معاهدة آخن في يناير، اتهمت مارين لوبان، زعيمة التجمع الوطني، الرئيس الفرنسي ماكرون بتسليم الألزاس ولورين إلى ألمانيا. الواقع أنه لم يكن للمعاهدة أي علاقة بهذه القضية، ولم تعد السيطرة الفرنسية على تلك المناطق مصدرًا للنزاع الثنائي؛ ومع ذلك، فإن استعداد لوبان لإحياء الروايات القومية القديمة لتحقيق أهداف سياسية فورية يشير إلى أن عموم أوروبا قد تسير بالنهاية في طريقها الصدامي..
طالما استمرت التهديدات الخارجية (الحقيقية والمتصورة) في السيطرة على نظرة القوميين للعالم، فإن الإحساس المشترك بالأوروبية سيظل دائمًا ذا جاذبية بين القوميين والشعبويين؛ إلا أن الخلافات حول الأراضي والهوية وغيرها من القضايا ستكون عوائق كبيرة أمام الاندماج الكامل، ومن المرجح أن تخلق تلك الخلافات صراعات بين الدول القومية حتى داخل إطار أوروبي. صحيح أن «الأوروبية» أصبحت سمة أساسية لأيديولوجية أقصى اليمين، ووضعت أجندة أكثر تماسكاً وخلقت مساحة لمزيد من التعاون لعموم أوروبا، إلا أن مفهومها للحضارة التي تجمع أروبا هو مجرد قشرة رقيقة لأوروبا بيضاء متجانسة عنصريًا وهي بالتالي مزيج من العنصرية والقومية في جوهرها ستؤدي مرة أخرى بأوروبا إلى طريق مسدود حسب تعبير بيبر.
يرى بيبر أن الاستبداد والشعبوية والقومية سيطرت على العناوين الرئيسية من الهند إلى أمريكا مروراً بالقارة الأوروبية، وأن القوميين والشعبويين يدَّعون ملكية الإرادة الحقيقية للناس، ويستخدمونها لتأطير حملاتهم حول روايات مفرطة في التبسيط تحرض «الشعب» (عادةً من المواطنين الأصليين المعرّفين عرقيًا) ضد العولمة والآخر.
في كل الأحوال، مهما أظهرت الحركات القومية شعاراتها بمظهر حضاري فهو قشرة تخبئ تحتها عنصرية تدعي التفوق على الآخر وتطالب بالنقاء العرقي ومعاداة التنوع الثقافي.. أغلب القوميين يقولون قوميتنا ليست عنصرية، بل القوميات الأخرى، لأن قوميتنا متفوقة.. هذه المقولة هي البذرة التأسيسية للعنصرية..