د.فوزية أبو خالد
هل مرَّ بكم شاب في ريعان العمر، لم يدخل حياة بعد جهاد المدرسة, يخلع دعة العائلة, يتخلى بمحض إرادته عن طيش الشباب, يزهد في موائد الملذات, لا يكترث للسلطات: سلطة الأصدقاء، سلطة التوقعات الاجتماعية، رغبة النوم وسلطة رغد العيش وترف الوقت؛ لينذر عمره لمهنة لا ترحم أصحابها؟
هل تعرف مَن صاحب الحرفة الحرة المستبدة الذي عليه أن يعب البحر، ويستعذب الملوحة، ولا يشتكي من قلق اللقاء، ولا من جروح الوداع التي يحفر تراكم فواجعها في دمه بما لا يعرف هو نفسه عن عمقه ومضائه؟
هل تعرف مَن صاحب المهنة الذي عليه أن ينحت بئرًا وليس له إلا أن يعتز بتحدي العطش؛ فلا تمس شفتاه الكأس إلا بعد أن يسقي كل مَن مسه ظمأ؟
هل تعرف ذلك الذي يعيش مع الكتب والكمبيوتر والكشوفات العلمية أكثر مما يعيش مع نفسه؟
هل تعرف من ذا الذي يتنفس أنفاس الناس أكثر من تنفس الهواء؟
هل تعرف مَن يجافي النوم وإن سنحت له فرصة لغفوة بين صحو وصحو تراه ينام معقوفًا كعلامة استفهام، لا يحس من فرط التعب إن كان ينام على سرير من شوك أو فراش من غمام؟
هل تعرف من لا يرى أحب الناس إليه أنى استبدت به الأشواق إلا سرقة من وراء الوقت؛ فلا عيون أطفال ترقب الباب وتتقافز لدقات الجرس، ولا رسائل زوجة ولهى، ولا نداءات أب تواق، ولا آهات أُم يجرحها الحنين، تستطيع أن تخطف سمعه عن أنين لا يسمعه سواه لناس لا يعرفهم، وكأنه لا يعرف سواهم، ولا ينتمي لغيرهم؟
هل تعرف مَن ذلك العامل الذي لا يأكل إلا راكضًا، لا فرق إن كان يأكل كفيارًا أو يأكل ساندوتش جبنة من كافتيريا بائسة، أو وجبة باردة مما تركته زوجته بعد أن مضها انتظاره على عشاء تعلم أنه نادرًا ما سيتمكن من الوفاء بوعد المجيء إليه قبل أن يغلبها سلطان النوم؟
هل تعرف من لا يعرف من الطيب والعطور إلا عبير المستشفيات المقطرة من رائحة الألم ممزوجًا برائحة الأمل، مطعمًا بروائح الأدوية والمطهرات والدم والدموع والعرق؟
هل جربت أن تقف على قدميك ثلاث ساعات.. سبع ساعات.. عشر ساعات وأكثر.. ساعات وساعات متواصلة، لا يقطعها طعام ولا شراب ولا نعاس ولا كلام ولا «سرحان» ولا لحظة وحدة أو لحظة انفراد بالذات وأنت تنحني بدقات قلبك وجهازك العصبي وتدفق دمك, تنحني بضميرك وبصرك وسمعك وكل شعرة في بدنك, تنحني بكل ما في يديك من قوة، وكل ما في صدرك من إيمان، وكل ما في المسؤولية من خوف، وكل ما في الخيال من أشباح وأطياف متخليًا عن حياتك لإنقاذ حياة إنسان؟
هل تعرف من لا يستطيع أن يلبي دعوة زواج، ولا يؤدي واجب عزاء إلا متأخرًا مجهدًا، وكأنه في النقيضين، يعيش فلسفة الوجود نفسها التي تجعل من المناسبتين اختبارًا يوميًّا لإرادة الحياة؟
هل عرفت إذن ذلك الإنسان الذي يتحالف مع المستقبل على حساب كل لحظة من لحظات الحاضر؛ فيعيش إجازات مؤجلة، ونومًا مؤجلاً، ونزهًا مؤجلة، وصيفيات مؤجلة، على أمل أن يجيء يوم بعد التخرج، يستعيد فيه حياته المؤجلة بأثر رجعي، إلا أن يوم التخرج يأتي وقبل أن يذهب يُدخله معتركًا جديدًا أشد توريطًا مما سبق في مواعيد راحة لا تحين من اللحظة التي نذر فيها نفسه لذلك التحالف القاسي مع حرفة الرحمة. فلا العمل ينتهي، ولا العمر يتوقف عن الإيغال به بعيدًا عن ليونة العمر وشهواته الحلال.
لعلنا بعد هذه الجولة الوجدانية السريعة في الحياة الميدانية التي يعيشها ساعة بساعة، ويومًا بعد يوم، وسنة بعد سنة، أصحاب حرفة القَسَم الغليظ الذي يقسمون فيه على مبادلة أرواحهم وعنفوان شبابهم بمقابل ليس له ثمن أسمه الضمير المهني, لا نملك إلا الدعاء لله بحفظ الطبيبات والأطباء الذين ليس لتفانيهم في عملهم من وفاء يكفيه.
حظي من مهنة الضمير
هل نعرف رعشة قلوبهم كما يقول د. بول كالانيثي عندما يرون جثة لأول مرة؟ أو هل نعلم برعدة أجسادهم حين يمسكون بالمشرط أول مرة؟.. هل نحس معدل نبضهم عندما يقفلون جرحًا لأول مرة؟؟؟؟
كنت أساهره لوجه الفجر وهو في الغرفة المقابلة، يسهر دوني منكبًّا على الكتب.. كنت أستحي من إرادته، أنهل من صبره؛ فأستقوي به على الاستغناء عنه؛ ليوفي بمتطلبات مهنته الباهظة.
كنتُ أعد له طعامًا مبهرًا بحبي فلا يجد وقتًا ليأكله.
كثيرًا ما كنت أخفي عنه وجعي لئلا أزيد منسوبه اليومي من آلام المراجعين.
وما زلت أستحرم أخذ قرش واحد من يده المثقوبة؛ لأني أعرف عز المعرفة أن حلاله مغموس بما ليس له مقابل من الصحة والتفاني والإخلاص.
كنت أحصنه بأسماء الله الحسنى، وبآيات الله العظمى، أقرأ عليه المعوذات عن بُعد، أعد الساعات ليدق الباب، ولا أعرف كيف يطاوعني قلبي أن أنام بالبيت وهو ينام أو قد لا ينام البتة في المناوبات.
كنتُ كلما جمعت الثياب للغسل، ودون أن يدري إلى اليوم، أدفن وجهي في بذلته الزرقاء، وأستنشق من أريجها رائحة بشرية مشربة بالأوجاع متوردة بأمل الشفاء؛ فأسجد لله على ما أكرمني به من جبروت الفؤاد لأتركه بحرية يغادر حضني والحياة اليومية الأقل كبدًا؛ ليقع في عشق هذه المهنة التي لا يُرضي غرورها ولا يُشبع نهمها المعرفي أقل من الاستئثار به عنه وعني.
* أظن أنني سبق ونشرت هذا المقال ولكن أجد أنه يستحق قراءة ثانية.