د. عيد بن مسعود الجهني
عام 1979 يمثل نقطة سوداء في تاريخ منطقة الشرق الأوسط عموما والخليج العربي خصوصاً، فهذا التاريخ أعلن سقوط نظام الشاه الذي تخلت عنه أمريكا كعادتها جهاراً نهاراً، كما تخلت عن أكراد سوريا وسلمت أعناقهم لتركيا، وهذه هي سياسة المصالح الدولية وتقاسم النفوذ التي نحن العرب شهداء عليها وخطوطها الدقيقة ترسم على أرض ديارنا دون أن تكون لدينا خطط واستراتيجيات لمواجهتها وفي مقدمتها بالطبع طموحات إيران.
لنأخذ التسلسل التاريخي السياسي مابين 1979 واليوم لنرصد مسيرة النفوذ الإيراني في مشروعه أمام أعين كل من أمريكا وإسرائيل دون أن يحركا ساكن، فالتمدد الصفوي ابتدأ من العراق مروراً ببلاد الشام وحتى بلاد الأرز لبنان، وهذه السياسة حددت منذ سنوات الملالي الأولى التي تبرز نتائجها اليوم.
في بلاد الرافدين وتطبيقاً لتصدير الثورة صعدت إيران من تدخلها بعد سقوط نظام صدام حسين- رحمه الله- في ذلك البلد من خلال استخباراتها وعملائها بل وحكومات العراق والأحزاب والمليشيات والجيش وأصبح لها القدح المعلى في السيطرة على مقدرات العراق السياسية والمالية والاقتصادية.
ولا يقل الأمر سوءاً عن هذا حال لبنان فدولة الملالي دعمت وتدعم حركة أمل وحزب الله فصار لها قوة مسلحة عملت على دعمها وتطويرها منذ تأسيس الحزب عام 1985 الأمر الذي جعله يتحكم في مقدرات لبنان حتى أصبح على حافة الهاوية بل والإفلاس المالي والاقتصادي.
ولا تقل حالة بلاد الشام عن العراق ولبنان فهي الدولة التي عبر من خلالها الملالي إلى لبنان ليفوز نظام الأسد الديكتاتوري الشمولي بعلاقات قوية مع إيران خاصة بعد ثورة الشعب السوري ضد هذا النظام الفاسد، لتكرس وجودها أكثر منذ 2011 لتصبح اليوم مع روسيا صاحبتي أكبر تواجد على أرض سوريا تحددان مقدرات ذلك الشعب، ولتفوز ماما أمريكا بحقول النفط وتركيا تسيطر على الشمال السوري لتصبح بلاد الشام أقاليم موزعة بين دول غازية عدة وهذا هو حال العراق.
أما اليمن فحدث ولا حرج فقد طبقت إيران نفس الأسلوب الحرب بالوكالة، فدعمها لحزب الله في لبنان والأحزاب والمليشيات والحكومات في العراق والنظام السوري طبقته في اليمن السعيد، فالحوثيون حزب أنصار الله هو الأداة التخريبية في اليمن انقلبوا على الشرعية وتضامنوا مع علي صالح ثم تآمروا عليه وقتلوه- رحمه الله-، فأصبح الحضور الإيراني في اليمن لاينكره إلا عديم البصيرة.
السؤال المطروح هل المشروع الإيراني من الممكن وقفه أو الحد منه في المستقبل المنظور؟ والجواب أن العارفين بتطور السياسات في الشرق الأوسط وتتبع مسيرة طموحات إيران يدرك أنها تسللت بالفعل إلى كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن بل وفلسطين عبر (حماس والجهاد)، وهذه حقائق واقعة على الأرض والتصدي لهذا المشروع يحتاج إلى خطط واستراتيجيات هدفها الوقوف في وجه هذا التدخل الإيراني المتنامي في الدول العربية.
وحتى كتابة هذا السطور في اعتقادنا الشخصي، عدم وضوح رؤية عربية أوخطة أو إستراتيجية معلنة على الأقل توقف زحف إيران أوحتى الحد منه، فالملالي مستمرون في إثارة النعرات الطائفية، ولا يبدو في الأفق أنهم سيعيدون حساباتهم لتقليل حدة التدخل بل إنهم ساعون في زيادة وتيرة ذلك التدخل وتصدير الثورة.
وإذا كان هناك بصيص أمل يبزغ للحد من طموحات إيران فإنه يتمثل في شعوب كل من لبنان والعراق وسوريا التي رفعت راياتها معلنة البراءة من إيران وتدخلاتها في شؤون تلك الدول ونهب ثرواتها لتعاني من الفقر والجوع والمرض والفساد بسبب تنامي النفوذ الإيراني ولا يقل حال أهل اليمن عن ذلك.
عامل آخر يرفع رأسه معلنا قدرته على الحد من تصعيد إيران للتوترات والصراعات بين دول المنطقة، وهذا العامل الرئيسي يتمثل في العقوبات الاقتصادية المفروضة على بلاد الفرس فتصديرها للنفط الذي تعتمد عليه ميزانيتها بحوالي 75 في المئة تدنى ليبلغ (300) ألف برميل يومياً، وهذا بلاء اقتصادي كبير، انعكس أثره على العملة لتفقد أكثر من 50 في المئة من قيمتها، والتضخم بلغ أكثر من 25 في المئة والبطالة 60 في المئة والفقر أكثر من نصف السكان البالغ عددهم 80 مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر، والفكاك منه ليس يسيرا، لذا ثار الشعب الإيراني ضد السلطة الحاكمة، لتصبح هذه الثورة الأخيرة أكبر من سابقاتها في الأعوام 2014، 2017، 2018 والقادم أفدح وأمر.
هذا لأن رأسمال الدولة - أي دولة - شعبها الذي هو الأساس في أركان تكوينها، وإذا ماضغطت السلطة على شعبها وعرضته للفقر والجوع والبطالة والفساد، فإن سقوط النظام والدولة معه أصبح مقبولاً، وهذا هو عنوان المظاهرات الأخيرة للشعب الإيراني في مواجهة سلطة الملالي فطلبها الرئيسي كان ولا زال إسقاط النظام الحاكم الذي واجه الشعب بالقتل والتشريد والاعتقالات التعسفية باستعمال القوة لقمع تلك المظاهرات.
ولا شك أن المظاهرات الحاشدة في كل من العراق ولبنان ضد إيران وأدواتها وأذرعها والأنظمة المرتبطة بها في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن، تبرز نضال الشعوب في مواجهة طموحات إيران وتدخلها وسياستها في شئون تلك الدول، تلك المظاهرات خرج من رحمها استقالة كل من رئيس الوزراء في لبنان والعراق، وبقيت حكومات لتصريف الأعمال مما يعني في لغة السياسة أن البلدين العراق ولبنان يعيشان فراغا سياسيا قد يهدد بانهيار الكيان الأساسي للدولتين بسبب التدخل الإيراني، وإذا أضفنا بعداً آخر مؤداه تقويض قواعد النظام السياسي الإيراني، ألا وهو ملفها النووي، فإن انسحاب إدارة ترامب من هذا الملف أدى إلى إعادته إلى الواجهة الدولية مرة أخرى، وفتح الباب مشرعاً لكل الاحتمالات بما فيها العسكرية.
وإذا طبقنا قواعد القانون الدولي المتعلقة بسيادة الدولة التي تعني أنها السلطة العليا للدولة في الداخل واستقلالها عن غيرها في الخارج، لاتضح أن سيادتها تعتبر منتهكة طبقاً لتعريف القانون الدولي للسيادة والدليل أن خبراء وكالة الطاقة الذرية وهم يباشرون عملهم على أرض بلاد الفرس مراقبين مفاعلات تخصيب اليورانيوم وغيره من نشاط قد يكون ذي صلة بالتطور النووي، يعتبر خرقاً صريحاً لسيادة إيران وإذلال للسلطة الحالية.
وهذا هو التناقض فإيران قبلت بانتهاك سيادتها من منظمة دولية تمثل الدول العظمى ولا تحرك ساكناً تقبل (بالقوة) إرادة المجتمع الدولي، لكنها تتدخل في الشئون الداخلية للدول العربية خاصة كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن، وأن كل ما تعانيه تلك الدول من أزمات داخلية وحروب ونزاعات وصراعات وانهيار اقتصادي سببها التدخلات الإيرانية رغم كل الشعارات الجوفاء التي تدعي طهران تبنيها كالمحافظة على استقلال الدول ومحاربة أمريكا وإسرائيل وهي الصديق الوفي لتلك الدول.
سؤال أخير يطرح نفسه بقوة اليوم.. ما هو الأسلوب الذي يجب أن يؤخذ في الحسبان لمواجهة ملالي طهران؟ وحقيقة الأمر واضحة كالشمس في رابعة النهار.. إذا كانت شعوب الدول العربية المتضررة من التدخل الإيراني في شئونها قد ثارت في وجهها وسالت الدماء على أرضها منادية بالحرية والانعتاق منها والعراق ولبنان مثل.
وإذا كانت المظاهرات قد ثارت هي الأخرى من داخلها لإسقاط النظام.. فإن الأمر يصبح ضرورة وليس ترفاً للوقوف في وجه طموحات إيران في منطقتنا العربية.
إذا الأمر يقتضي مواجهة ذلك البلد وسلطته الحاكمة بأدواته ومبادئه وسياساته دعماً وتأييداً لشعوب الدول الثائرة ضده.. ودعماً لشعب إيران.. وفي هذا تحقيقاً للعدالة الدولية والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان!!
إذا أصبح وضع الخطط والإستراتيجيات على المستوى الإقليمي والعربي والدولي لبلورة سياسات جوهرية مبنية على رؤى علمية وسياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية وإستراتيجية لمواجهة طموحات إيران بالحاضر والمستقبل، ضرورة تستدعيها قواعد الأمن القومي العربي.
وأهم الأسلحة في مواجهة طموحات إيران امتلاك القوة فالدول التي ملكت زمام القوة لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا بالإصرار والتخطيط السليم والعمل الدؤوب والتضحيات الجسام، لبناء القوة الرادعة قوة الطائرات والأسلحة الذكية والصواريخ عابرة القارات والدبابات والراجمات والبوارج حاملة الطائرات بل والقوة النووية وليس سكاكين وخناجر أو أسلحة مستوردة رديئة لاتقتل عصفورا ولا تخيف هرة.
ومفهوم القوة يمتد إلى دعم المظاهرات ضد طهران لتشرب من نفس الكأس الذي تجرعته بعض شعوب المنطقة بدعم إيراني.
دعم الحرب بالوكالة ضد إيران لتشرب أيضاً من نفس الكأس الذي أسقته لشعوب العراق وسوريا ولبنان واليمن.
والله ولي التوفيق،،،