د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** من يُحاصرك ليس كمن يُخاصرك مع أن في كليهما شدَّ وثاق وقفلَ آفاق وتعتيمًا لزوايا الرؤية، غير أن الحصار خنْق والمخاصرة خلق، والحياةُ تأذن بالدنوّ حتى لا مسافة إلا الحنوّ، ولا تستجيب للعلوّ إذا اتكأ على التعالي، وكذا يظن الأحياء ببعضهم خيرًا أو يتوهمون شرًا، وبمثله يقضُون ويتقاضَون، وتسير بهم المراكب وتقف، وتتعانق المناكب وتفترق، ولله أمره وللإنسان تقديره؛ فـ «قلبُ الغريب ليس كقلب أخيك، وعيناه ليستا عينيه»، كما قال أمل دنقل 1940-1983م في رائعته: «لا تصالح»: (وهل تتساوى يدٌ سيفُها كان لك بيدٍ سيفُها أثكلك)؟
** كذا يجيء الفارق بين المحاصرة والمخاصرة، وبمثله تجيء قراءاتُنا الثقافية واستعاراتنا التأريخية بين من هجيراه الحق ومن يحركه الهوى فيختزل النصوص ليوجهها وفق رياحه ويضبط تواقيتها على قياس ساعاته ويدوّر الزوايا كي تتواءم مع مقدماته واستنتاجاته.
** هل يحاصرُ الحق أم يخاصره من يثير قضايا مختلفًا حولها ليكسب امتيازات النفي والإثبات والشهرة والالتفات؟ الإجابة ستختلف وفقاً لطرفي المعادلة المتناوئين، ولنأخذ مثلًا من يؤكدون عدم تدوين شيءٍ من خطب الجمعة لسيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولو تثبتوا لعلموا أن كتبًا عديدةً أفردت لها بدءًا من «المدائني في القرن الثالث الهجري مروراً بالعسال والأصبهانيَّين والمستغفري والموصلي في القرون الثلاثة التالية، وليس انتهاءً بالرسائل الجامعية والمؤلفات الحديثة؛ فمن يحاصر ومن يخاصر؟ وأين هو قلب الغريب؟ وهل ثم موقع لقلب الحبيب؟
** وهل يحاصر الحقّ أم يخاصره من يشكك في حجية السنة النبوية بدعوى عدم كتابتها إلا بعد قرن، مع أن تدوينها ابتدأ في حياته - عليه السلام - حتى لم يفت الصحابةَ رضوان الله عليهم فعل ولا قول ولا إقرار ولا صفة، كما أذن لمن لا يلتبس لديه القرآن الكريم بالحديث الشريف بصحائف خاصة بهم، ومنهم: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولعبدالله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما صحيفة تسمى: «الصادقة»، ويقرِّر بعض العلماء أن النهي عن تدوين السنة منسوخ بالإذن به لأبي شاه وبرسائله -عليه السلام- إلى ملوك فارس والروم ومصر.
** وهل يحاصر الحق أم يخاصره من يكتفي من التأريخ بما اختاره مستشرق أو مستغرب من حكاياتٍ فحاكم وحكم عبر مصادر أحادية، وهل يحاصر الحق أم يخاصره من يقرأ السطر الأول ويهمش المتن فيختزل إنجازات أزمنة بزمن؟ وهل يحاصر الحق أم يخاصره من يحتفي باللقطة الأخيرة لعدسة مكبرة ولا يأبه لبقية اللقطات؟ وهل يحاصر الحق أم يخاصره من يسعى لصوغ تفكير أولاده وطلبته ومريديه بممالأة رؤاه، وفي علاقاتنا الشخصية والرسمية نحاصر ونخاصر بكيفمائية مدهشة فيختلط في أذهاننا الحب والحرب، والبُعد والقرب فنقسو ونأسو ونتبتل ونلهو ونبدل ونعدل ولا نتساءل: إلامَ وعلامَ.
** الأحكام إلزام والتزام.