د.محمد بن عبدالرحمن البشر
شاعر أموي قرشي، يُقال إنه من أبناء عمرو بن عثمان بن عفان، واسمه عبدالله، وقد عاش يتيماً في الطائف، حيث فقد أمه وأباه، ومع ذلك لم يتطرق في شعره إلى الفخر بأهله، ولم يتباه بنسبه، كما هي حال الشعراء في الجاهلية والإسلام، وحتى الموالي مثل بشار بن برد، وحماد عجرم، وأبي نواس وغيرهم، الذين يفتخرون بمن ينتمون إليه، ولم ينقل لنا أنه قد ذكر أصله سوى في بيت من الشعر يقول فيه:
كأني لم أكن فيهم وسيطاً
ولا لي نسبة في آل عمرو
وعمرو بن عثمان بن عفان، أكبر أولاد عثمان بن عفان سناً، وخرج من نسله رجال ذوو مقام، وشرف، وقدر، وقد اعتزل عمرو الفتنة وبقي في مكة حتى وفاته.
لقب عبدالله بن عمرو بالعرجي، وعرج هو ماء بالطائف في وادي يُسمى المنبجس يناسب منه الماء، وكما تعلم فإن الطائف غزيرة الأمطار، كثيرة الوديان، فلا غرابة أن يكون بها الكثير من الآبار، وموارد المياه، ومع هذا فإن بعض القبائل في بعض الأحيان تتقصّد ورود ماء بعينه، رغم علمها بعدم سماح صاحب المورد بذلك، إظهاراً للقدرة على اختيار ما تشاء، وأنها لا ترد عمَّا تريد، لهذا فقد كان يمنع هوزان إذا أرادت الورود إلى ماء العرج، فتكون بينهما ملاحات، أفضت إلى العداوة.
يشير البلاذري إلى أن له إخوة منهم عاصم ووصفه بالبخل في قول الشاعر:
سيرا فَقَدْ جن الظلام عليكما
فيا بؤس من يرجو القرى عِنْدَ عَاصِم
فَمَا كَانَ لي ذنب إِلَيْهِ علمته
سِوَى أنني قَدْ زرته غَيْر صائم
أي أنه ليس بينه وبين عاصم ما يستوجب العداء والصدود سوى أنه قدم إليه وهو غير صائم، لأنه كثيراً ما يعتذر لضيوفه بأنه صائم لذلك فهو لا يستضيفهم وطالما الحديث عن البخل فهناك شاعر آخر يقول: عن رجل اسمه عيسى:
يُقتّر عيسى على نفسه
وليس بباقٍ ولا خالدِ
فلو يستطيع لتقتيره
تَنفَّس من منخرٍ واحدِ
وينقل لنا ابن حيان أن أحد حكام بني أمية في الأندلس، قد زار أحد إخوته، ويُقال له عثمان، فطلب ماء فأبطأ بإحضاره فقال:
الماء في دار عثمان له ثمن
والخبز فيه له شأن من الشأن
نعود إلى العرجي لنعلم أنه جميل الوجه، وضاء في لونه شقرة، وشعره أسود، وقد اشتهر آل عمرو بن عثمان بالجمال حتى إن أشراف العرب يحرصون على الزواج منهم، كما أن النساء المنعّمات من القوم يتمنين الزواج من فتيانهم، فقد جمعوا الجمال والنسب.
وقد لقب عمه بالمطرف، وابن عمه بالديباجة، وهناك ألقاب كثيرة لهم جرت على ألسنة الناس.
كان عصره مستقراً، فقد قبض بني مروان زمام الملك، وهو المنتمي لهم نسباً، لكنه أيضاً ينتمي إلى الحجاز موطناً، وقد فقد الحجازيون تأثيرهم السياسي، وسلطتهم السابقة، وكان شبابهم غير مرحب بهم لدى السلطة المروانية، فقد انصرف بعضهم إلى التجارة والاستثمار، والبعض إلى اللهو المفرط، وآخرون إلى التدين والنسك والإبحار في العلوم، فقد كان الوضع الجديد بيئة خصبة لمحاولة البحث عن الذات في غير السياسة والسلطة المحرومين منها.
والعرجي يرى نفسه أموياً وحجازياً في ذات الوقت، فحاول أن يجرب السياسة التي حرم منها أقرانه في الحجاز، فذهب إلى الشام، وانضم إلى جيوش الفتوح المزدهرة في ذلك الوقت وقد حاول جاهداً لفت نظر الخليفة، هشام بن عبدالملك المنتمي إلى ذات البيت، عبر وسائل شتى، وطرق مختلفة، وكان يطمح أن يعيّنه والياً على مكة أو المدينة، لكنه لم يلتفت إليه وعيّن بدلاً منه خالاه، فعيّن على مكة خاله محمد بن هشام المخزومي، وعلى المدنية خاله إبراهيم بن هشام المخزومي، فعاد العرجي إلى الطائف بائساً في حلقه غصة بعد أن فقد طموحه السياسي، وعلم أن لا سبيل إلى ذلك، لهذا فما كان منه إلاّ أن ينصرف إلى ما انصرف إليه أهل الحجاز، اللهو المفرط، أو التجارة والإنتاج، أو التنسك، والعبادة والبحث في العلوم لإبراز الذات، ويبدو أن جبلته، وظروفه في صباه، وإحاطته ببعض من جلساء الأنس والهوى جعلته ينصرف إلى السفر واللهو، فأخذ منه نصيباً.
وأخذ يتشبّب بالنساء، حتى قاده سوء حظه إلى أن تشبّب بنساء الوالي محمد بن هشام المخزومي خال الخليفة ظاناً أن نسبه سوف يكون حصناً له من العقاب، لكن والي مكة لفق له تهمة مع أحد أصحابه يُقال له عزيز الحميري، وذهب ذات يوم من الطائف إلى المدينة، فهو لم يرتكب ذنباً، لكن الوالي قبض عليه، وأودعه في السجن وآل على نفسه ألاّ يخرجه طالما أن له سلطاناً، وكان ظالماً قاسياً، فبقي في السجن تسع سنين يخرجه كل جمعة ويجلده أمام الناس حتى توفاه الله.
دارت الأيام، وتولى الوليد بن يزيد، فاستدعى محمد بن هشام وأخاه إبراهيم، وسلمهما لأحد ولاته، وأمره أن يودعهما في السجن انتقاماً لابن عمه، حيث قال لهما بعد أن استعطفاه كيف لكما أن تفعلا بابن عثمان بن عفان ما فعلتما، وبقيا في السجن حتى أدركتهما المنية.