شهدت الجزيرة العربية عددًا من الحضارات على مدى التاريخ إلا أن الحضارة الإسلامية تعدُّ أهمها؛ إذ نبعت هذه الحضارة من أرض الجزيرة العربية؛ لتمتد إلى أرجاء العالم. ومثلت مدن الجزيرة العربية، خاصة مكة المكرمة والمدينة المنورة، المنطلق والمحور لهذه الحضارة.
ويبرز معرض روائع آثار المملكة عبر العصور الذي يتجول في عدد من أبرز المتاحف العالمية، ويحط حاليًا في روما في محطته السابعة عشرة، جوانب مهمة من هذه الحضارة من خلال عدد كبير من القطع الأثرية التي تُظهر تطور الحضارة الإسلامية وتقدمها وثراءها في مختلف النواحي العلمية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
ويخصص المعرض قسمًا للحضارة الإسلامية، يتضمن مجموعات من العصور الإسلامية، مثل الحجارة والسيراميك والزجاج والأواني المعدنية من العصرين الأموي والعباسي، إضافة إلى نقوش جدارية تعكس التطور في فن الخط العربي، والمسكوكات الإسلامية الذهبية والفضية، والزخرفة المعمارية، وستائر وأقفال الحرمين الشريفين، ومجموعة متنوعة من المواد والصور التي تعود إلى الدولة السعودية الحديثة التي نشأت عام 1744م؛ لتعكس هذه القطع الدور الثقافي الرائد للجزيرة العربية والازدهار الحضاري والاقتصادي الذي شهدته عبر العصور الإسلامية المختلفة.
وتبرز القطع التي يحتويها المعرض أن التحول الأكبر في تاريخ شبه الجزيرة العربية بدأ مع ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي، وانتشاره في مناطق جغرافية واسعة النطاق. وقد شهدت المقدسات الإسلامية في مكة المكرمة والمدينة المنورة عبر مئات السنين قوافل الحجيج السنوية التي سلكت طرق الحج التاريخية الممتدة من مصر والشام والعراق واليمن عبر شبه الجزيرة العربية، ومن أشهرها درب زبيدة وآثاره التاريخية الماثلة، وهو ما يوضح انفتاح شبه الجزيرة العربية على العالم منذ القدم، ويؤكد أن نهضة المملكة العربية السعودية وانفتاحها وتواصلها مع الحضارات والثقافات العالمية في العصر الحديث هو امتداد طبيعي للإرث التاريخي الذي تمثله محتويات المعرض.
وتعكس قطع المعرض أن المكانة التي تحظى بها المملكة اليوم بين دول العالم على المستويات الدينية والسياسية والاقتصادية والحضارية إنما هي امتداد لإرث حضاري عريق، إضافة إلى الموقع الجغرافي المميز الذي جعلها نقطة التقاء لطرق التجارة
الدولية، البرية والبحرية، عبر جميع العصور، وأدت دورًا مميزًا في التواصل الثقافي والاقتصادي بين الشرق والغرب، وأن الدين الإسلامي العظيم الذي انطلق من أرض المملكة إلى العالم خرج من أرض غنية بتاريخها وحضاراتها واقتصادها.
ومن أبرز الحضارات الإسلامية التي قدمها المعرض حضارة مدينة الربذة بالقرب من المدينة المنورة؛ إذ كانت الربذة من الحواضر الإسلامية الكبيرة في قلب جزيرة العرب، وشكلت مركزًا اقتصاديًّا وثقافيًّا مهمًّا، ومحطة رئيسية على طريق الحج من العراق إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة. وقد تم العثور في موقع الربذة على معالم معمارية متنوعة، ومواد أثرية وصناعات، تبرز تطور الحضارة الإسلامية في عصور الخلفاء الراشدين والدولتين الأموية والعباسية. وأكدت هذه المعثورات أن الربذة كانت على درجة عالية من التطور في الصناعة، وبالأخص في الأدوات الفخارية والخزفية والحجرية والزجاجية؛ فقد تم العثور على أوانٍ كاملة من الجرار والأطباق والأكواب والقوارير، المزينة بعناصر زخرفية بديعة، تدل على دقة الصناعات، وخبرة الصناع، ومقدرتهم وملكتهم في الحرف والصناعات.
وتأتي القطع النقدية المكتشفة لتعطي دلالة واضحة على الثراء الاقتصادي للربذة. وتتراوح السنوات التي تعود لها المسكوكات المكتشفة إلى عصر صدر الإسلام، وإلى الفترة الأموية والخلافة العباسية في عصورها الزاهية. ومن الخلفاء التي وردت أسماؤهم على النقود المكتشفة، أو تتوافق تواريخ سك العملة مع فترات حكمهم، الخلفاء: الوليد بن عبد الملك، وأبو جعفر المنصور، وهارون الرشيد، والمعتضد بالله.. وغيرهم.
وإذا كانت الربذة قد انتهت بوصفها مدينة إسلامية فإن آثارها أمدت الباحثين بمعلومات وفيرة عن الحضارة الإسلامية المبكرة في قلب الجزيرة العربية، كما أن التراث المعماري للربذة يوضح صورة جلية، نستدل منها على طبيعة الحضارة الإسلامية بمفهومها الشامل في العصر الإسلامي المبكر في الجزيرة العربية عامة، والحجاز ووسط الجزيرة.
وفي بحث له عن الحضارة الإسلامية يؤكد الباحث خالد البكر أن الحضارة الإسلامية قدمت نماذج ورؤى مبتكرة في مختلف نواحي الحياة (من عقيدة وفقه، وطب وصيدلة وعقاقير، وفلك، وحساب، وجبر، وأدب وشعر، وتاريخ، وجغرافيا)؛ فأسهمت في دعم مسيرة الحضارة الإنسانية، وفي تشكيل شخصيتها.. بل اتصفت ببُعدها التواصلي وانحيازها إلى مخالطة الأمم والشعوب، وتقنين التعامل معها، وارتياد المجاهل والدروب، ووصف مسالكها وبلدانها.
وقد تجلت الأشكال التواصلية التي امتازت بها الحضارة الإسلامية في مظاهر شتى، جسدتها رحلات الحج، ثم كتب البلدانيات؛ فأدب الرحلة بصفة عامة.
فيما أكد عالم الآثار والتراث الدكتور سعد الراشد أن طرق التجارة والحج القديمة التي كانت تربط بين مكة المكرمة والمدينة المنورة من جهة، ودول العالم من جهة أخرى، أسهمت في تطوير الاقتصاد العالمي، وأحدثت نقلة مهمة في التراث الإنساني من حيث السياسة والاقتصاد والثقافة بين مختلف المناطق.
وأشار إلى أن عرب الجزيرة العربية كان لديهم رصيد من التراكم الحضاري والثقافي والسياسي، أهّلهم للتفاعل والتكيف مع المجتمعات في الأقطار التي وصلوا إليها. مشيرًا إلى أن طرق الحج وطرق التجارة في الجزيرة العربية شكّلت شبكة للتواصل الحضاري والاقتصادي والثقافي قبيل الإسلام، ليس في إطار الجزيرة العربية ومنافذها البرية والبحرية فحسب، بل مع مدن القوافل والحواضر الأخرى في بلاد العراق والشام ومصر وجنوب شرق إفريقيا.