د.عبد الرحمن الحبيب
كلمة «النخلة» مشحونة بالدلالات في المخيلة العربية بصورتها الرشيقة كشجرة باسقة تتحدى أعتى الظروف من جفاف وملوحة ورياح عاتية بلهيب الحر أو صقيع البرد. أمام قحط سنين عجاف ظلَّ النخل عنصر البقاء الأساسي لسكان الصحراء حاضرة وبادية.. إنه السقف الحامي للواحات.. فإذا كان الجمل سفينة في بحر الصحراء فالواحة هي جزيرة الأمان لهذا البحر، والنخيل هي خيمة الواحة، فطولها الفارع يُعدِّل المناخ تحتها لتربية الحيوانات وزراعة المحاصيل التي تنهكها بيئة الصحراء القاسية..
كانت العرب تقول عن النخلة: «جذعها نماء، وليفها رشاء، وكربها صلاء، وسعفها ضياء، وحملها غذاء.» فالنخلة آنذاك تدخل في بناء المنزل من بابه حتى سقفه مروراً بأثاثه ومطبخه وإداوته، إلا أن أغلب هذه الاستخدامات اندثرت، وصارت منتجات النخيل تُحرق أو تُطمر عدا التمر، بينما تؤكد الدراسات العلمية إمكانية استخدام الكثير من الحاجيات الحديثة إضافة للقديمة من منتجات النخيل كمورد متجدد وثمين.
وإذا كان التمر لا يزال يمثِّل غذاءً مهماً، فكذلك «ثقافة النخيل» لا تزال جزءاً من حياتنا اليومية، فهي ضاربة في عمق الثقافة العربية كأحد عناصر تراثنا، خاصة بالمملكة العربية السعودية، وينبغي الحفاظ على جمال هذا التراث الثري المتنوِّع. ومن هنا تأتي أهمية نجاح المملكة، الأسبوع الماضي، بتسجيل عنصر النخلة ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لدى اليونسكو، والذي تقدمت به المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (قدمته 14 دولة عربية). وقد مثَّلت المملكة «الجمعية السعودية للمحافظة على التراث» التي زفت الخبر مهنئة الوطن والقيادة.
أهمية النخلة الاجتماعية والثقافية جعلت منها علامة فارقة لشعار المملكة الذي يتمثَّل في سيفين متقاطعين تتوسطهما نخلة كرمز للرخاء والصمود، حيث اقتبس السيف من العَلَم، وأضيف إليه رمز النخلة إشارة إلى أنه لا يتحقق الرخاء إلا بالعدل، حسبما ذكر الباحث عبدالرحمن الرويشد الذي أوضح أن هذا الشعار يستخدم في أسفل العلم الوطني مما يلي السارية محاذياً أو دون مقبض السيف.
إذن، النخلة ليس مجرد شجرة فاكهة، بل لها قاموس بالعربية يميزها دون كل الأشجار، فلكل جزء من أجزائها اسم خاص يتغيَّر حسب مرحله نموه، فمثلاً أوراقها سعف وإذا نشف فهو جريد وعرقه الوسطي عسيب وإذا نزع منه الجريد فهو خوص، وقمتها النامية جمارة أو قلب، وأزهارها شماريخ أو أغاريض، وثمارها خلال أو بلح أو رُطب أو تمر حسب مرحلتها.. وهكذا، مما يطول شرحه.
ليس هذا وحسب، بل يمكن القول إن النخلة صاغت «حياة مجتمع الجزيرة العربية اقتصادياً واجتماعياً وحضارياً وشاركته في حياته اليومية بحيث يستطيع الباحث أن يكتب سيرة النخلة كما تكتب سيرة حياة الرجال العظماء الذين يصنعون حياة المجتمع..»كما ذكر عالم الاجتماع عبدالرحمن الشقير الذي أوضح أنه عند اجتماع الأسرة، ولقاء الأصدقاء، وإقامة المناسبات الكبيرة، غالباً ما تبدأ بالتمر مع شرب القهوة العربية..» وللتمور مراسم وآداب أكل متعارف عليها، مثل أن يأكل الشخص التمر فرادى.. ولا يحق له أخذ اثنتين مهما كان حجم التمرة صغيراً، كما يحق له تحديد التمرة التي سوف يأكلها مهما كان موقعها في الصحن، بعكس الأكل الذي يلزم أن يأكل الشخص مما يليه، وفي المثل الشعبي «التمر خص، والعيش قص»..
هذه التقاليد مرتبطة أكثر بمجتمع الواحات التي أشير إليها في المقدمة.. وهنا لا ننسى أن واحة الأحساء تم إدراجها ضمن قائمة التراث الإنساني العالمي (اليونيسكو)؛ فهي أكبر وأشهر واحة نخيل بالعالم تميزت منذ القدم بموقعها الجغرافي كحلقة وصل بين الحضارات القديمة.
منذ آلاف السنين عُرِفت الواحة كأرض خصبة ذات زرع في الصحراء، بمياه جوفية قريبة من سطح التربة قد تتفجَّر منها الينابيع (العيون). ويبدو أن لفظة واحة مأخوذة من اللغة القبطية القديمة، حيث تنطق واح أو أواح. وحتى الكلمة بالإنجليزية (oasis) وتنطق أويسس قادمة من اللاتينية التي بدورها مقترضة من المصرية القديمة «واكيا».
ليس غريباً أن الواحة باللغة القبطية القديمة تعني «المسكن»، فواحة النخيل تقدِّم أغلب ما يحتاجه سكانها من طعام وحاجيات أخرى. يُذكر أن أحد العراقيين الذين عاشوا قبل ميلاد المسيح عليه السلام سُئل ذات يوم، ما هي ثمار بلادكم؟ فأجاب: التمر، فقيل له: ثم ماذا؟ فأجاب: التمر أيضاً. فلما استغرب السائل من هذا الجواب، راح المسؤول يوضح ما يجنونه من النخل، قائلاً: إننا نستظل بها عن وهج الشمس، ونأكل ثمارها، ونعلف ماشيتنا بنواها، ونعلن عن أفراحنا بسعفها، ونتخذ من عصير تمرها عسلاً ونبيذا، ونصنع من جريدها وخوصها الأسرة والحصران وغيرها من الأثاث، ونصنع من سقوفها خشباً لسقوفنا وأعمدة لبيوتنا ووقوداً لمطبخنا».
وإذا كان ذلك قديماً، فلا زالت الإمكانية في الحاضر أكبر، كما ذكرت الدكتورة ساندرا بييسك، وهي فنانة ومهندسة مشاريع معمارية وناشرة كتاب «العريش: عمارة سعف النخل»: أظهرت أبحاثنا وتطوير الدراسات الحديثة أن أوراق النخيل يمكن إعادة دمجها مرة أخرى إلى المباني الحديثة بنجاح، ويمكن أن نضيف إلى الوظيفة البيئية للواحة المرافق الملحقة التي تحتاجها المجتمعات المحلية في الواحات..