عبدالعزيز السماري
نمر في نهاية مرحلة، فالتاريخ عادة لا يكرر نفسه، والأيام تثبت أن اليوم يختلف عن الأمس، فالتفكير من خلال الأيدولوجيا أو الطائفة تم التحرر منه بنسب متفاوتة في المجتمعات العربية، وقبل ذلك حدث انفصال بين الأفكار الشمولية والفن والسياسة والاقتصاد، وهو ما يعني أن العالم يدخل مرحلة جديدة..
من عاش مرحلة الشيوعية والماركسية وزمن الحرب الباردة قد يعي ما أقول، فالأبواب المؤصدة تم فتحها، والجدران العازلة سقط أمام رياح التغيير، وكان أهمها جدار برلين، وغيره من الجدران غير المرئية بين الشعوب، ويبدو أن هذا النمط من الاتجاه يجتاح العالم العربي..
فالمطالب الحالية تتجاوز الفكر الأحادي الذي يفرض مرئياته على كل صغيرة وكبيرة، وانتقل إلى الحقوق الفردية بمعزل عن سلطة الفكر الجماعي الشمولي، والعيش بكرامة، ويدون تقديم تنازلات، وقد تكتمل دورة التاريخ بتجاوز مجتمعات الشرق العربي الأحاديات الحزبية والأعلام الطائفية في الميادين السياسية..
فمجتمعات الدول العربية في الشرق العربي، وخصوصًا دول الهلال الخصيب والشام، تزدحم بتعدد الأحاديات، الطوائف المتناحرة، التي تُدار من خلال الزعماء المسيسين بمصالحهم الضيقة، لكن يبدو أن الإنسان قد تجاوز تلك المسارات الضيقة إلى المصالح الكبرى، مع احتواء أكثر للأفكار الضيقة..
جاء أول موجات التحرر في العالم في الفن، وذلك عندما تخلصت من حلقات الصراع الثوري والأغاني الحزبية، والأفلام الموجهة، وقد قال لينين يومًا ما إن السينما هي الشكل الفني الأكثر أهمية للثورة، وسرعان ما تحول مذهب الواقعية الاشتراكية إلى وسيط دعائي، عقدي في لهجة ونوايا تعليمية موجهة..
لكنها ما لبثت أن سقطت عندما أعلن جورباتشوف إعادة البناء الحقيقي للدولة، بعد انهيارها اقتصاديًا، وقبولها لمبدأ حرية السوق والعمل والتفكير، وكان ذلك الحدث بمنزلة موجة تغيير عملاقة اجتاحت شرق أوروبا، لكنها تأخرت في الوصول إلى الشرق العربي.
تداعت لي هذه الأفكار أثناء مشاهدتي لخطاب متلفز لزعيم حزب الله الشيعي المتطرف في لبنان، وهو يخرج بعمامته ورمزيتها الإيرانية الطائفية المتشددة، يتحدث في السياسة والاقتصاد والاستقرار، وقد عجبت بما قال، فقد كان ظهوره في تلك الرمزية عنوانًا للتحزب الطائفي والولاء الخارجي لدولة أجنبية..
لا يمكن أن يكون الحزب السياسي حبيسًا في خزانة الأفكار الطائفية، ولا يمكن أن يكون فرعًا أو سفارة لدولة أجنبية، ولا يمكن أن تكون المقاومة اللبنانية طائفية صرفة، تقوم استعراضاتها العسكرية على اللطم وضرب الصدور، فما تمثله العمامة الفارسية من رمزية هو أكبر مهدد لدولة لبنان، فالحزب ولاؤه للدولة الأجنبية أكبر من ولائه للوطن، وتلك معضلة الأيدولوجيا..
حدث مثل هذا أيام الحرب الباردة، فقد كان ولاء الماركسيين والشوعيين لموسكو أقوى من الولاء لبلادهم، وكان ذلك واضحًا في حركة الإخوان المسلمين العالمية، وغيرها من الأفكار العابرة للحدود، وربما يغيب عن هؤلاء أن زمنهم ولى، وأن المستقبل للحرية وحقوق الإنسان ولاحترام الاختلاف في مصلحة الوطن..
لكن ذلك لا يعني التفريط بحقوق الأرض أو استبدال مستعمر بآخر، فالشعوب قالت كلمتها في كثير من الدول العربية، وعلى الحكومات والأحزاب أن تدرك أهمية حقوق الإنسان وأن التخوين أو التكفير لا مكان لهما في المستقبل، فهل يدرك السياسيون ذلك قبل فوات الأوان؟