أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: القاعدة عند جمهور علماء المسلمين كما هو مفهوم الشرع: أن الخطاب من الله جل جلاله، أو من رسوله -صلى الله عليه وسلم- يقتضي الامتثال من المكلف عقدًا، وقولاً، وعملاً؛ والغاية من الامتثال تحقيق رضى الرب، والنجاة من النار، ودخول الجنة بدءًا برحمة الله سبحانه وتعالى.. هذه هي الحكمة العامة، والعلة الكافية؛ لأن المكلفين من الجن والإنس ما خلقوا إلا لهذا الامتثال؛ وهذا لا يعني المنع من تحري حكمة الشرع في تفصيلاته؛ وإنما المحرم أمران: أولهما وقف الامتثال على معرفة الحكمة؛ فهذا شغبٌ على الشرع؛ بل الواجب على المكلف الامتثال فور تبلُّغه بالنص، وفهمه له، واستطاعته ما طلب منه امتثاله.. وثانيهما تأسيس أي حكم شرعي على أي حكمة شرعية ما لم تكن هذه الحكمة منصوصًا عليها، أو مستنبطة متيقنة أو غالبة الرجحان، وبشرط أن يكون الحكم المبني على الحكمة: اجتهاديًا في موضع لم ينص عليه باسمه؛ لأن النص على المحكوم فيه باسمه أخص من النص على معناه؛ وإنما قلت: (إن الحكمة مقصد مندوب المجتهد إلى تحريه بذينك القيدين المذكورين آنفًا؛ لأن الحكيم من أسماء الله، ومن صفات تدبيره؛ ولأن الله وصف تدبيره الشرعي بالحكمة في عشرين آية من كتاب الله سبحانه وتعالى.. قال الله سبحانه وتعالى:
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ (129) سورة البقرة.
يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ (151) سورة البقرة.
وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ (231) سورة البقرة.
وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء (251) سورة البقرة.
يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء} (269) سورة البقرة.
وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا (269) سورة البقرة.
{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (48) سورة آل عمران.
لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ (81) سورة آل عمران.
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ (164) سورة آل عمران.
فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ (54) سورة النساء.
وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ (113) سورة النساء.
وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (110) سورة المائدة.
ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ (125) سورة النحل.
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ (39) سورة الإسراء.
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ (12) سورة لقمان.
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ (34) سورة الأحزاب.
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) سورة ص.
وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ (63) سورة الزخرف.
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) سورة القمر.
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ (2) سورة الجمعة.
ولأن الله استحث عقول المكلفين على التدبر والاعتبار.. والحكمة تكون مصلحة دنيوية منصوصة كأثر القصاص في تحقيق الأمن، وتكون مستنبطة لتحقيق مصلحة دينية، أو دنيوية كندب الشرع إلى التخفيف من المباحات؛ فالمجتهد يرجح أن الحكمة دينية؛ وهي التخفف من الحساب يوم العرض الأكبر، ولن يستوحش المكلف من هذا الاستنباط وهو يجد في دين ربه أنه مسؤول عن النعيم، وأن الكفار مبكتون باستهلاك المتعة في حياتهم الدنيا.. وحق على المجتهد إذا لم يجد الحكمة منصوصًا عليها ألا يجزم بأنها مراد للشرع حتى لا يقول على الله بغير علم؛ وإنما يجعل الحكمة ثمرة لامتثاله؛ فعلى سبيل المثال: ألف أحد المعاصرين؛ وهو الأستاذ (عبدالرزاق نوفل) كتابًا عن (الصلاة)، وأحصى ما فيها من حكم دنيوية لا سيما ما ينفع البدن؛ فلا يحق للمجتهد أن يجزم بأن هذه المصالح هي مراد الشرع من فريضة الصلاة، أو جزء من مراده؛ لأن هذا قفو محرَّم، وقول بغير علم يقيني، أو راجح؛ ولكن المجتهد إذا داوم على الصلاة وتحققت له من الديمومة مصالح دنيوية؛ فليقل بغير خوف، ولا وجل: هذه حكمة حققتها من امتثالي لحكم الشرع؛ فهذا هو الفارق بين حكمة الشرع، وحكمة الامتثال.. وبعكس ذلك تحقق قوة المسلم في مواجهة صعاب حياته بسبب الصلاة، وتحقق عصمته عن كثير من الخطايا؛ فهذه حكمة راجحة؛ لأن الله سبحانه وتعالى نص على أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وحثنا ربنا على الاستعانة بالصلاة، واستراح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلت قرة عينه فيها.. ولقد تذوق هذه الحلاوة الشيخ (يحيى بن مالك بن عائذ الأندلسي) رحمه الله تعالى؛ فكان إذا دخل المسجد قائلاً عن الصلاة:
يا رب لا تسلبني حبها أبدًا
ويرحم الله عبدًا قال آمينا
والبيت في الغزل؛ فكان هذا من مليح التمثل، ونقل الشاهد.
قال أبو عبدالرحمن: ليس لي أدنى فضل عن هذا الاستقراء؛ بل هو استقراء (المعجم المفهرس الشامل لألفاظ القرآن الكريم بالرسم العثماني/إعداد (عبدالله إبراهيم جلغوم)؛ ولا أدري هل (عبدالله إبراهيم) بمعنى (عبدالله بن إبراهيم) كما هو لغة العرب الأقحاح، أو أنها مركبة تعني أن (عبدالله إبراهيم) شخص واحد كما لغة القوم بعد فساد السليقة العربية؛ وإلى لقاء في السبت القادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.