د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
لن أودعك أستاذي؛ لأنك لن تفارقني، فأنت في ذهني وخيالي، كل حرف أقرؤه كل حرف أكتبه يذكرني بك، بإشاراتك، بحركاتك، بصوتك الهادئ، بابتسامتك الرائعة، بسرعتك الفائقة في قراءة ما بين يديك واستيعاب مضمونه والتعبير عنه وتجاوزه بملاحظاتك الدقيقة القيمة.
رأيتك تكتب بخط واضح له سماته الجمالية الخاصة، فإذا عدلت عن لفظ عدتّ عليه بقلمك تدير عليه بدوائر متداخله تلغيه، فلا يشاغب ما في السياق.
حين دخلت عليك في قسم اللغة العربية (جامعة القاهرة) أول مرة ألفيتك جالسًا إلى جوار النافذة المطلة على فناء الجامعة، حيث تظهر كلية الحقوق وجزء من مبنى إدارة الجامعة، رأيتك والنور يشع من وجهك، استقبلتني بابتسامتك، ورحبت بي ترحيبك بصديق قديم، وحين تحلقنا حولك، أنا وزملائي الذين أذكر منهم معيض العوفي وعبدالحميد الأقطش وإبراهيم بركات ومصطفى المتولي وعبدالعزيز سفر، كان شعور البهجة والترقب يستولي على أنفسنا، توهمنا في ذلك اليوم أن نتلقى دروسًا نظرية أو أمالي تزوي جوانب الدروس؛ ولكن رأيناك تحمل كتاب سيبويه بنشرة بولاق، وتقِفنا لأول مرة على باب الإدغام، وهكذا أدخلتنا بلطف وعمق إلى الدراسات الصوتية منطلقًا من تراثنا العريق، وكأنما تقول إن ما سنذكره من جهود المحدثين إنما هو في ساقة جهود أولئك العظماء، كم أكبرت هذا الموقف العملي، لم تتكلم عن ذلك؛ ولكنك جعلتنا بحسن تصرفك ننتهي إليه، كان الكتاب نقطة الانطلاق حيث كلفتنا الكتابة عن القضايا التي عالجها سيبويه ابتداء من ترتيب الأصوات وتعداد أنواعها وصفاتها ومخارجها، ورأيناك كيف توسع دائرة القول بأن وقفتنا على أعمال المحدثين منبّهًا إلى الأصيل منها وضعًا والمأخوذ من غيره سطوًا، وقفتنا على ترتيب القضايا في كتب المؤلفين وعلة ذلك، كانت إشاراتك تسبقها أسئلتك لنا عن مّا نعرفه من ذلك فكنا ربما أجبنا مجتهدين وربما تحيرنا في الجواب فأسعفتنا.
لن أنسى أستاذي زياراتنا لبيتك أنا وزوجتي وسمية التي كانت طالبة في كلية البنات جامعة عين شمس، كانت تعدّ رسالة «صيغ الجموع في القرآن الكريم»، وكنت أستاذي تنوب متطوعًا للإشراف عليها؛ لأن مشرفها أعير لجامعة عربية، كنا نرى مجلسكم المتصل بمكتبتكم العامرة يغَصّ بالطلاب والطالبات من الجامعات المصرية ومن جامعات عربية مختلفة، كلهم يقصدك للاستشارة، وكنت تبذل وقتك لهم سعيدًا بهم مرحبًا؛ لأنك كنت تحمل هموم العربية وهموم طلابها وهموم البحث العلمي في قضاياها.
لن أنسى أستاذي يوم سمعت بمرضي فعدتني في بيتي، ولم ترض حتى أخذتني إلى زميلك الدكتور الجراح محمد البتنوني في شارع الدقي، وعرضت في ذلك اليوم أن تتحمل تكاليف الجراحة المقررة.
لن أنسى يوم طلبت منك أن تزودني بسيرتك الذاتية، فأخذت الورق، وبقلم ذي خط سميك بعض السمك بدأت تدون من حفظك أهم مراحل تكوينك العلمي وإنجازك العملي، فعدتُّ معي وثيقة قيمة كانت عمادي حين دونت سيرتك في أحد مواقع الشابكة (الفصيح).
لن أنسى الكتيب الذي زوى تاريخ العربية في نحو مدهش (اللغة العربية عبر القرون)، كان من أوائل الكتب التي اقتنيتها أول قدومي للقاهرة صيف 1974م.
لن أنسى أنك أطلعتني على مسودات ترجمة تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين وفرحك بموافقة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية على ترجمته ونشره.
لن أنسى أنك تفضلت بقبول مناقشة رسالتي للدكتوراه، وأنه حين وصل الدكتور عبده الراجحي غاضبًا ساخطًا؛ لأنّ من أرسلناه لاستقباله لم يوفق إلى ذلك، رأيتك كيف أحسنت استقباله وأسكت عنه غضبه، وفثأت سَورته.
لن أنسى أنك حين رشحت لجائزة الملك فيصل في المرة الأولى وبعثت بإنتاجك الغزير شرفتني بأن أحمله إلى إدارة الجائزة.
لن أنسى أنّ إدارة إعداد موسوعة السلطان قابوس لأسماء العرب أرادت تعينني خبيرًا لها في المملكة العربية السعودية، فلما عرّدتُّ هيبة؛ كتبتَ إليّ بيدك الكريمة رسالة تدعوني للمشاركة، فعلمت أنك عضو في الهيأة العلمية، وأنك من رشحني ابتداءًا، فطابت نفسي وما كان إلا التلبية.
لن أنسى أنك شرفتني في مؤتمر «تعليم اللغة العربية في المستوى الجامعي:18-21 أبريل 1992م، جامعة الإمارات العربية المتحدة/ العين» بأن قدمتني لعرض بحثي «أخطاء الطلاب الصرفية والاستفادة منها في التعليم الجامعي» وعقبت عليه تعقيبًا علميًّا نادر المثال.
لن أنسى ما تعلمته من خلقك وأدبك وبذْلك نفسك للعلم ولطلابه بأريحية لا حدود لها.
لن تنساك جامعات افتتحتها أو درّست فيها، أو حاضرت فيها أو كُرّمت فيها، ولن تنساك معاهد لتعليم العربية أسستها ووضعت مناهجها، ولن تنساك أروقة مجمع القاهرة ولا جامعة القاهرة أو غيرها فقد ملأتها بعبق علمك.
لن ينساك طلابك في مشارق الأرض ومغاربها الذين تخلقوا بخلقك، وساروا على دربك، واهتدوا بهديك، وعلموا طلابهم ما ثقفوه على يديك وما اقتبسوه من نورك.
لن ينساك طالباي ياسر قائد ومنصور الوليدي يوم لقيناك في الملتقى التنسيقي الخليجي للجامعات والمؤسسات المعنية باللغة العربية في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الذي نظمه مركز الملك عبدالله العالمي لخدمة اللغة العربية (1435ه/2014م)، قدمتهما إليك ليتشرفا بالسلام عليك، وقلت لك، ذلك اليوم، هذان حفيدان من أحفادك، فإن يكن العلم رحم بين أهله فما أكثر أبناءك وما أكثر أحفادك. ودعوتك ذلك اليوم للغداء مع أسرتي؛ ولكنك اعتذرت بلطف بالغ ووعدت بزيارة مع زوجك السيدة النبيلة الأستاذة فردوس التي طالما استقبلتنا في بيتكم بكرم ومودة، ولكن الأيام تجرّمت ولم يأذن الله بذلك.
لن يكون هذا اليوم الأربعاء 11/12/2019م يوم رحيل؛ بل يوم انتقال من دار فناء إلى دار بقاء في جنة الفردوس، وأنت في قلوبنا وعقولنا؛ ولذا:
لن أودعك ولن يودعوك؛ لأن أحدًا منا لن ينساك.