منيف خضير
لم يُعرف عن المتنبي أنه شاعر غزل كما عرف بشعره الغزير في الفخر والمدح والحكمة والمراثي والحروب، ذلك أن شخصيته المتوثبة تتطلع دائماً إلى ما هو أبعد من الغزل والحب، ولكن من يتتبع شعر هذا الشاعر العظيم يدرك بجلاء سمو روحه الغزلية، وعشقه للمرأة وبحثه عنها وتطلعه إلى لقائها، غزل فيه حكمة وفيه معاني غير مطروقة من قبل الشعراء الغزليين، وذلك يعود كما أسلفنا إلى طبيعة شخصيته المختلفة عن غيره من الشعراء، وغزل المتنبي في الغالب يكون متناثراً في أغراض أخرى من شعره غير الغزل، وهو غزل يصل إلى درجة العبقرية التي توافق حضور شعر المتنبي وشعوره في المشهد الشعري العربي، فالمرأة في غزله مختلفة عن المرأة في غزل غيره، ومعانيه التي يتطلع إليها في معشوقته معان أخرى مختلفة أيضاً، كل ذلك يصاغ بطريقة تليق بهذا الاسم الكبير الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، يقول في ذات عشق يرتدي عباءة الحكمة:
تَشتَكي ما اشتكَيتُ مِن ألمِ الشّوْ
قِ إلَيها وَالشّوْقُ حَيثُ النُّحولُ
وَإذا خامَرَ الهَوَى قَلبَ صَبٍّ
فَعَلَيْهِ لِكُلّ عَينٍ دَلِيلُ
زَوِّدينَا من حُسنِ وَجْهِكِ ما دا
مَ فَحُسنُ الوُجوهِ حَالٌ تحُولُ
وَصِلِينَا نَصِلْكِ في هَذِهِ الدّنـ
يَا فإنّ المُقَامَ فيها قَليلُ
وغزل المتنبي في هذه الأبيات شبيه بالغزل العُذري، والجمال أول ما يظهر له في المرأة في وجهها، ويرى أن النحول صفة لازمة للشوق، وكذلك الشرود الذي يصاحب أعين العشاق ويهدي إليهم وكأنه الدليل، ويقول في قصيدة أخرى:
وَحَمَلتُ ما حُمِّلتِ مِن هَذي المها
وَحَمَلتِ ما حُمِّلتُ مِن حَسَراتِها
إِنّي عَلى شَغَفي بِما في خُمرِها
لأَعِفُّ عَمّا في سَراويلاتِها
وَتَرى الفُتُوَّةَ وَالمُرُوَّةَ وَالأُبُو
وَةَ فِيَّ كُلُّ مَليحةٍ ضَرّاتِها
هُنَّ الثَلاثُ المانِعاتي لَذَّتي
في خَلوَتي لا الخَوفُ مِن تَبِعاتِها
وهنا يبرز الوجه أيضاً كرمز للجمال عند المتنبي، ويقول ورغم جمال وجوههن إلا أنه يعف عن أجسادهن في إشارة للحب العذري العفيف الذي يعكس سمو شخصيته ورقيها، والتزامه بمبادئ العفة والخلق القويم الذي يمنعه من فعل اللذات.
وتتكرر معاني جمال الوجه في أبيات مختلفة من قصائده، حيث يذكر اللحظ فيقول:
مُطاعَةُ اللّحْظِ في الألحاظِ مالِكَةٌ
لمُقْلَتَيْها عَظيمُ المُلْكِ في المُقَلِ
والمتنبي في الأبيات السابقة يؤكد على حتمية لقاء العاشقين، وأنه السبيل إلى اللذة الحقيقية، فالدنيا إلى زوال، ويؤكد هذا المعنى في بيت شهير:
وَمَا صَبابَةُ مُشْتاقٍ على أمَلٍ
مِنَ اللّقَاءِ كمُشْتَاقٍ بلا أمَلِ
وعن اللقاء يؤكد في قصيدة أخرى:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي
وأنثني وبياض الصبح يغري بي
وتبرز الحكمة ويبرز المنطق في غزله في غير أبيات من قصائده، فهو في غزله ليس ذلك العاشق المستهام، بل هو الفارس الأبي ذو الخلق البدوي الأصيل الذي ينحاز إليه عقلاً وشعراً حيث يقول:
حسن الحضارة مجلوب بطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
ويبرز المنطق والقدرة الجدلية في هذا البيت:
تقولين ما في الناس مثلك عاشق
جدي مثل من أحببته تجدي مثلي
والواقع أن المتنبي ليس له امرأة معروفة يتغزَّل بها، وكان لا يظهر شيئاً من ذلك في شعره، إنما يتحدث عن تلك الغائبة بشيء من الغموض، ولكن المؤرِّخين (ومنهم محمود شاكر) يشيرون إلى علاقة خفية بـ (خولة) أخت سيف الدولة الحمداني، ولم يثبت دليل قطعي على ذلك، ولكن هي التوقعات والقرائن التي تجعل أشعاره في اعتذارياته لسيف الدولة تشي بشيء من علاقة عاطفية يحاول التبرؤ منها أو نفي احتمالاتها. كما يحاول مغازلتها على طريقة غزل الملوك، وأياً يكن فغزل المتنبي غزل من هذا النوع الذي يرتقي عن غزل معاصريه ويبتعد عن الإسفاف والمجاهرة والتصريح، وتبرز العفة دائماً في غزله كأصدق ما يكون العربي الأصيل الذي وضع نفسه في قيد العفة والخلق الرفيع فتقيدا.
يقول:
وما كلّ من يهوى يعفّ إذا خلا
عفافي ويرضي الحب والخيل تلتقي