د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
انتابتني دورة سعال غريبة عجيبة، سعال جاف، يرجف جسدي رجف ماكينة سقط نصف مساميرها. سعال لم أعهده من قبل، ولا حول ولا قوة لي حياله. كلما سعلت رأيت بلعومي يخرج فوق صدري؛ ليسخر مني ويتحداني. أخفق طب طبيبي كالعادة في تشخيص حالتي، و»بعد أن جس نبضي» قال لي «لا تقلق؛ فهذا مجرد فيروس»، وكأن الفيروس لا يضر. أي فيروس هذا؟! ومَن دله علي؟ مَن أعطاه عنواني الذي أخطأته جميع شركات البريد. من أي ثقب في منزلي الصغير تسلل؟ وكيف تخطى حواجز الليمون والبرتقال، وجميع جدران الفيتامين «سي»؟
تعجبتُ كيف استهون الطبيب بالفيروس، وقلل من عزيمته وقدرته على الفتك والإقلاق، فقلت له: «يا أخي، الإيدز فيروس، حمى الدجاج فيروس، وجنون البقر فيروس، وكثير من جنون البشر فيروس، وعالمنا اليوم عالم الفيروس. فأنت - حفظك الله - لم تطمئني بقولك فيروس». لكنه أضاف بأن «بعض الوعكات الصحية لها علاقة بالعوامل النفسية، خاصة لمن يتابعون الأخبار على التلفزيون، ومن لا يزال يعلق أملاً بأن يعتدل أمل البشر في ظل هذا الجنون الفيروسي».
اشتد السعال بي حتى أشعل نارًا في صدري؛ فتسربت جميع الهواجس في رأسي، تتقدمها نظرية المؤامرة، خاصة أن الوقت ليل، والجميع نيام، والوحدة أصبحت قاتلة. فطن في رأسي أن هذا الفيروس مثل بقية مصائب البشر في العقدين الماضيين، هو اختراع غربي، وغزو حضاري، وأنه جزءٌ من معركتهم ضد الإرهاب التي استخدموا فيها كل الأدوات الحضارية وغير الحضارية.
خطر في بالي أن هذا الفيروس تسرَّب لنا من طبقات الهواء العليا بواسطة طائرات درون غير مرئية، أو أنه وَفِد لنا من قطعة من جهنم التي أنزلها الاحتباس الحراري على الأرض.. ألا يعقل أن يكون فيروس سعالي من جملة الأسلحة الفيروسية التي لا تملك القدرة على إنتاجها إلا الدول المتقدمة، مثلها مثل السموم التي تقتل ولا تكتشف؟ أيعقل أن تنخفض حرارة الطقس وترتفع حرارتي؟ ألا يوجد من يستفيد من الطاقة الحرارية المهدرة التي يبثها جسدي؟
استعذتُ بالله، وخفتُ أن يتهمني أحد «بالقذف»؛ لأن موضة هذه الأيام محاكمة البشر بمختلف القوانين والشرائع الممكنة.. بل إن الخوف استبد بي؛ فخفت أن يكون هناك من لديه القدرة الخارقة على معرفة هواجسي التي أبثها لنفسي. ثم طرحت على نفسي سؤالاً، زلزل جوانحي: يا تُرى، ماذا لو رفعتُ على نفسي قضية بتهمة مضمون هواجسي التي تهدد أمن وجداني؟ ما أنا فاعل؟ ومَن سيدافع عني؟ أليست راحتي هذه الأيام تباد في كل لحظة عمدًا، وسهوًا، وخطأ، وشبه خطأ، ومتعة، وتسلية، ويذهب دمها هدرًا كدم أي مخلوق ضعيف؟
في طريقي من الطبيب أدرت جهاز الراديو؛ لعله يخلصني من هواجسي التي أصبح ألمها أشد من سعالي، فإذا بإحدى مطربات النشاز تشدو: «أنت حبك حب عادي، أنا أبغى حب غير عادي، حب يزلزل فؤادي». ثم تلا الأغنية صوت شخص تخيلت من صوته أن شاربيه يغطيان شفتيه، ويفلتران كلامه، وأن جميع فيروسات الأرض ترتد على جدران مناعته؛ فجميع منافذ وجدانه مغلقة. البرنامج طبعًا على الهواء، وعلى الهوى. أضاعت اللحظة علوم الرجل وهو يخاطب المذيعة ذات الصوت الرقيق المتغنج، فأتي صوته مرتجفًا وجلاً وهو يطلب أغنية منها، ويخاطبها وكأنه قيس يخاطب ليلى العامرية: «وينك؟ نسيتيني؟ زعلتيني، والله مالك حق! ليش ما رديتي علي من بدري، أنا زعلان منك مرة خلاص! وعلى كذا ما رايح أهدي لك أغنيتي اليوم»!! ردت عليه وكأنها تخاطب طفلاً تهدّيه وتدلعه «معليش، طول بالك علينا يا شاطر! أنا ما نسيتك ولو! إحنا ما ننسى أصدقاءنا اللي دائمًا يتصلون فينا!! فاصل ونواصل»! استراحة قصيرة ونرجع! ثم شق المذياع صوت أجش، صوت ينضح بالخشونة والرجولة: حبوب.. المجربة، الرجال أفعال، الرجال أفعال. وما انتهى الإعلان الأول حتى تلاه إعلان ثانٍ يردد: «اشتري دماغك وارتاح، اشتري دماغك وارتاح.. اشتري رز أبو خيشة المزة الهندية ففيه أفضل وصفة هندية لإراحة الدماغ، بالرز تعلو الهمم وترتقي الأمم».
تعوذتُ من الشيطان، وسبحلت وحوقلت، وقلت غير معقول ما يجري على قيمنا وتراثنا، حتى رجولتنا لم تسلم من التشويه، أين الرجولة الحقة من رجولة الحبوب الـ... وخياش الرز؟ وكيف تحولت راحة عقولنا وشهامتنا إلى خياش نملأ بها بطوننا؟ فقلتُ لنفسي: قد يهون سعالي الحاد عند السعال الحضاري التي تعيشه أمتنا اليوم.