د.سالم الكتبي
ربما لا يحتاج العالم الإسلامي في العصر الراهن أكثر من وحدة الصف والكلمة من أجل التصدي لمخططات التقسيم والفتن ووأد القضايا المصيرية التي يدافع عنها، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وحسم مصير المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين، وفي هذا الإطار تقوم منظمة التعاون الإسلامي بجهد كبير، منذ تأسيسها في سبتمبر عام 1969، حيث جاء التأسيس أحد الاستجابات المهمة والردود الإسلامية على جريمة إحراق المسجد الأقصى.
ولمجرد التأكيد فإن التعاون الإسلامي ليست منظمة ضعيفة التأثير دولياً ولا هي عابرة في التاريخ الإنساني، فهي ثاني أكبر منظمة دولية بعد الأمم المتحدة، وتضم نحو 57 دولة من جميع أرجاء العالم، وتعتبر الصوت الأكثر تعبيراً عن المسلمين ومواقفهم حيال القضايا الدولية والإقليمية كافة، ونجحت في التفاعل مع شواغل العالم وهمومه وقامت بتوسيع أجندة عملها واهتماماتها لتشمل مختلف قضايا السلم والأمن والتنمية ومكافحة الإرهاب والاستثمار والغذاء بل وقضايا المناخ والثقافة والمرأة وحقوق الإنسان والحكم الرشيد ومكافحة التطرف والإرهاب ونشر الوسطية والاعتدال والتعايش وغير ذلك من قضايا تحتل أولويات اهتمام المجتمع الدولي. ولاشك أن تأثيرها وفاعليتها تبقى رهن فاعلية النظام العالمي في شكله الحالي وبمنظماته الدولية المتعددة، وفي القلب منها الأمم المتحدة، بشكل عام؛ وبالتالي لا يمكن المزايدة على هذا الدور ولا اتهام طرف أو دولة ما بالحد من هذه الفاعلية والتأثير لأنه ببساطة مرهون بعوامل واعتبارات دولية معقدة ومتشابكة ليس من بينها إرادة طرف واحد أو دولة واحدة حتى لو كانت الدولة القائدة أو الأكثر تأثيراً في محيطها الإقليمي.
وعندما ترددت أنباء عن إنشاء كيان إسلامي مواز بدعوة من ماليزيا ومشاركة دول إيران وتركيا وقطر، وانعقد اجتماع بهذا الشأن في العاصمة كوالالمبور مؤخراً، بدا الأمر محيراً ومثيراً للتساؤل من جانب المراقبين المهتمين بشؤون عالمنا الإسلامي، لأن هذه الدعوة التي تأتي في وقت عصيب للغاية، يعاني فيها هذا العالم إشكاليات ومعضلات صعبة، ويجد مشقة في التعامل مع قضايا معقدة مثل موضوع تسوية القضية الفلسطينية، فضلاً عن ما تفعله بعض الدول الأعضاء في التكتلات الإسلامية مثل إيران وتركيا من ممارسات تتسبب في كثير من الإرباك الاستراتيجي للعالم العربي والإسلامي، بل وتعد هذه السلوكيات أحد أخطر التهديدات الاستراتيجية، التي تعانيها مجموعة الدول العربية الإسلامية!
اللافت أن اجتماع كوالالمبور شهد توقيع عدد من مذكرات التفاهم تشمل موضوعات مختلفة مثل التكنولوجيا المتقدمة، والتعاون الإعلامي، ومراكز التميز، والأمن الغذائي، والقيادات الشابة، وتبادل البرامج بين الدول المشتركة، وهي جميعها قضايا مدرجة على أجندة عمل منظمة التعاون الإسلامي، ما يطرح تساؤلات مشروعة حول الهدف الحقيقي من هذا الاجتماع! ثم كيف يستهل هذا الكيان الموازي، ولن نقول البديل، عمله بقضايا هي موضع إجماع رغم الإعلان عن أن سبب قيامه هو الادعاء بفشل منظمة التعاون الإسلامي في حل الكثير من القضايا والمعضلات والإشكاليات إذ كان يتوقع أو يفترض أن تدرج ولو قضية واحدة من القضايا التي يتردد أن منظمة التعاون الإسلامي أخفقت في حلها والتعاطي معها!
يعتقد الكثيرون، ونحن منهم، أن انعقاد قمة إسلامية بدون مشاركة كل الدول الإسلامية الأخرى، مثيراً للحيرة والتساؤل، إذ لا يجد أحدنا سبباً لانعقاد تجمعات وكيانات إسلامية موازية بخلاف التعاون الإسلامي لتناقش قضايا ليست بعيدة مطلقاً عن أجندة هذه المنظمة الإسلامية العريقة، فهل الهدف هو مجرد إيجاد تجمع موازي لمنظمة التعاون الإسلامي؟ أم أن الهدف هو تأسيس تكتل أكثر ارتباطاً بقضايا محددة كما يعتقد من يقف وراء الفكرة؟ في كل الأحوال يمكن تحقيق أي هدف من خلال منظمة التعاون الإسلامي بما تمتلك من موروث تنظيمي وآليات سياسية وقدرة تنظيمية. وليتنا نتعلم مما يدور من حولنا في العالم، ونرى - على سبيل المثال - كيف استطاع قادة حلف شمال الأطلسي، مع اختلاف طبيعة المنظمة وأهدافها، التغلب على التباينات والخلافات القائمة وبناء مشتركات وتوافق حول استشراف مستقبل الحلف وإنعاش دوره وتقديم جرعة اوكسجين قوية له في قمتهم الأخيرة رغم ما يدور بينهم من تراشقات وتجاذبات وخلافات في المصالح والأهداف.
الغريب أن تركيا، وهي عضو حلف الأطلسي وصاحبة ثاني أكبر جيش في الحلف، تدير خلافاتها بل وصراعاتها مع دول الحلف المختلفة بشكل مهني احترافي، وتجلس مع الجميع على طاولة واحدة وتتبادل الرأي والنقاش بدون كلل أو ملل، وعندما يتعلق الأمر بأي تباين في وجهات النظر مع دول عربية وإسلامية فالأمر مختلف!
المهم أن تباينات المصالح ووجهات النظر لم تدفع أي طرف للانشقاق على حلف الأطلسي وتأسيس حلف مواز أو بديل، بل قفز الجميع على هذه التباينات في لحظة واحدة بفعل توافر فن إدارة الخلاف وتغليب المصالح المشتركة، فلماذا لا تتمتع الدول الإسلامية التي تقود مجموعة كوالالمبور الإسلامية بهذا القدر من الاحترافية في إدارة أي تباينات أو خلافات في وجهات النظر وحتى المصالح؟ ولماذا تطغي النظرة الاستعلائية على بعض الدول الإقليمية في تعاملها مع نظيراتها العربية الإسلامية على وجه التحديد؟!
الموضوعية تقتضي القول بأمانة إن بناء أي كيان إسلامي مواز هو، عملياً، شق للصف الإسلامي حتى لو احتفظ الأعضاء في هذا الكيان بعضويتهم في كيانات قائمة بالفعل منذ عقود طويلة، فالرسالة التي يتلقاها العالم من هذه الممارسات العبثية أن هناك خلافات ومعضلات إسلامية لم تعد قابلة للحل، وأن هناك من يغرد خارج السرب، بما يضعف قوة الكيان الرسمي الممثل للعالم الإسلامي، وهو منظمة التعاون الإسلامي، فضلاً عن الحد من تأثيرها وقوتها في المحافل والأوساط الدولية.
وسواء استهدف المجتمعون في كولالمبور إنشاء كيان مواز أو منظمة إسلامية مصغرة تمثل الدول المشاركة في هذا الاجتماع أم أن لديهم هدف وأجندة أخرى، فإن الأثر السلبي قد تحقق أو على وشك التحقق، والمسألة هنا تتعلق، ولنقولها بصراحة، بإضعاف دور العالم الإسلامي ككل، لأن منظمة التعاون الإسلامي تسعى إلى تحقيق مصالح وأهداف الدول الإسلامية دون استثناء، وتسعى لجمع الشمل وتوحيد الصف الإسلامي والدفاع عن قضايا العرب والمسلمين وإيجاد حلول وتسويات نهائية لها وهو ما لا يمكن أن يحققه اجتماع ماليزيا.