د. محمد عبدالله العوين
بعض الأمم تنتحر مختارة!
تمارس الانتحار اللغوي على مسرح الحياة طائعة مهرولة نحو الذبول والموات.
لا يجبر أحد أحدا على أن يتكلم أو يكتب أو يسأل بغير لغته؛ إلا في حالات الضرورة حين لا مناص؛ لكن أن يتحدث عربي إلى عرب في بلد من بلدان العرب بلغة غير عربية في محاضرة عامة ماذا نسميه؟!
أنا شاهد على هذا في احتفال إعلامي كبير جميع الحاضرين فيه عرب في أحد ديار بني يعرب.
هذا هو الانتحار الاختياري الطوعي الذي أعنيه.
في ديار بعض العرب تأوي إلى فندق فتحادث موظف الاستقبال أو تدخل مطعما فتطلب قائمة الطعام أو تتصل بمكتب سياحة أو تتواصل مع خطوط طيران أو تتقدم لتعبئة استبانة فيتحدث معك الموظف أولا باللغة الإنجليزية؛ فإن لم تجد الحديث بها أو كنت متأتئا ببعض كلماتها انتقل إلى الحديث بعربية هندية مكسرة إن كان يجيد منها كلمات مبعثرة، فيصبح الحوار بينكما حوار طرشان!
ما مستقبل لغتنا إذا كان جيل من أبنائنا تخرج على منهج (لغتي) العقيم وهو لا يجيد كتابة سطر يحسن فيه التعبير عن فكرة، ويجهل المبتدأ من الخبر، والفاعل من المفعول، والجار من المجرور، والمقدم من المؤخر، والمضاف من المضاف إليه، والاسم من الفعل، والتاء المفتوحة من المربوطة؟!
ما مستقبل لغتنا وبعض أبنائنا يكتب المعنى العربي بحروف إنجليزية على (الكيبورد) لأنه لا يجيد التعبير بالحروف العربية المرسومة أمامه بجانب الحروف الإنجليزية؟
ما مستقبل لغة أبنائنا وبعض الآباء والأمهات لا يتحدثون مع أطفالهم إلا بلغة إنجليزية في بيئتهم وموطنهم العربي، حتى يكاد الطفل في أسرة كهذه لا يجيد لغته الأم أو يشعر نحوها بالضآلة وعدم الاحترام؛ لأنها ليست لغة العصر كما يتوهم؟
كيف يمكن أن نتخيل مستقبل ألسنة أجيالنا إذا كان كل ما يحيط به يتكلم بلغة غير عربية أنى ولى وجهه؛ حتى الغناء الذي يعد ترنيما ولحنا ورقصا وإيقاعا متصلا اتصالا وثيقا باللغة والوجدان والشعور أصبح في كثير من الحفلات بلغة غير عربية؟
لا أعلم كيف يستطيع الشاب أو الشابة فهم رطانة كورية أو صينية أو هندية أو أفريقية ثم يتراقص ويتمايل معها طربا وهو لا يفهم معنى كلماتها ولا تستجيب أذنه ولا يرتاح وجدانه ولا يترنم لسانه بنغماتها؟
ما دوافع أن يقبل كثيرون من الجيل الجديد على التحدث أو التغني أو الرقص على إيقاع نغم غير عربي في بيئة عربية؟!
والجواب يدخلنا في متاهة أكثر بكثير من الحيرة التي فجرت هذا السؤال.
بقي من لغتنا العربية إلى الآن في اللغة الأسبانية ثمانية آلاف كلمة عربية لا زالت تدور على ألسنة الأسبان متخفية أو ملثوغة بحرف أو متدثرة بإمالة أو مزادة بنقطة؛ يا ترى كم سيبقى في معجمنا نحن العرب للأجيال القادمة من لغتنا بعد أن انقلبنا من مصدرين آلاف الكلمات وأطنان المعاني إلى مستوردين منتحرين لغويا برضا وتسليم؟!