خالد الخضري
في منتصف التسعينيات الميلادية، وقبيل بزوغ الألفية الجديدة شهد الإعلام نقلات كبيرة مع ظهور الإنترنت الذي هو الآخر ارتبط بنقلات كبيرة، وتطور مرحلي منذ بدأ ظهور شركات التواصل، وشركات محركات البحث التي هدفت إلى تحقيق نقلات في حياة الإنسان على مستوى التواصل من خلال تسهيل عمليات الاتصال، وكذلك على مستوى مقدرة تمكينه من الحصول على المعلومة بيسر وسهولة، وارتبطت بدايات انطلاق هذه التطبيقات بتوفير بريد الكتروني، حقق وجوده طفرة كبيرة على صعيد سهولة التواصل بين أبناء البشر عموماً.
ثم ظهرت على غرار ذلك الدردشات المكتوبة «الشات» التي هي الأخرى أتاحت فرصة أكبر لمزيد من التواصل ومن ثم برزت المنتديات كتطبيقات مستقلة عن شركات البريد الإلكتروني.
ثم ظهرت غرف الدردشة «البالتوك» التي هي الأخرى أتاحت مجالاً كبيراً للتحاور بين الأفراد والمجموعات على نطاق أوسع، وأصبح بالإمكان، أن توفر بعض شركات البريد الإلكتروني هي الأخرى مجالاً للدردشات المرئية المسموعة في نهاية التسعينيات من القرن الماضي.
ومع بداية الألفية الجديدة، أصبح هناك نشاط أكبر ومتسارع جداً لتحقيق المزيد من الخدمات المتطورة في هذا الجانب التي كانت حتى منتصف ونهايات العقد الأول من الألفية الجديدة وهي لا تعدو قدرتها نحن البشر على التواصل الذكر سوى عبر الحاسب الآلي، في حين كانت شركات الهواتف النقال تطور من إمكاناتها، كي تتجاوز مرحلة الاتصال الهاتفي والرسائل النصية، إلى رسائل الوسائط المتعددة، إلى أن ظهرت الأجهزة الذكية، متعددة الوسائط ومتعددة الاستخدامات التي كانت شركات كبرى في أمريكا وفي أوروبا، وفي الصين، تعمل على تطويرها منذ أوائل التسعينيات الميلادية، جاء الآيفون، والأندرويد، كنظامين ليحققا النقلة الأهم في حياة البشر.
ولعل ظهور هذين النظامين كانا المحك الأهم في التحول الإعلامي، وفي تغيير كثير من المفاهيم السابقة على صعيد التواصل بين البشر، وعلى صعيد العمل الإعلامي عموماً.
فإذا كنا سنتحدث عن الرسالة، بشكلها التقليدي، من مرسل ومستقبل ووسيلة، وشيفرة، فإن هذه النظرة القديمة للرسالة تهشمت تماماً مع وجود الأجهزة الذكية، فلو تأملنا الرسالة في ذاتها، لوجدناها بادئ ذي بدأ عبارة عن محتوى مكتوب أو شفاهي، نص أو كلام، هذه الرسالة لو أرسلت من فرد إلى آخر، هل يمكن أن تكون رسالة إعلامية، وكيف للرسالة أن تتحول إلى إعلامية أو غير ذلك، هل الإعلام رسالة، وهل الرسالة إعلام، أمر يعيدنا من جديد إلى الجدلية القديمة السائدة، فيما يخص البيضة والدجاجة ومن منهما الأصل، أو من هو الأسبق، لكننا عندما نركز قليلاً نجد أن الرسالة دائماً تحتاج إلى مرسل ومستقبل، وقد يكون المستقبل شخصاً واحداً أو أكثر من شخص.
وفي دوراتي التدريبية حاولت أن أكشف مع المتدربين عن واقع الرسالة، ومتى يمكن لها أن تتحول إلى رسالة إعلامية، أو إعلام، وهل يمكن رسالة بين شخصين فقط أن تكون إعلامية، أو أنها تظل رسالة شخصية؟
هل محتوى الرسالة له دور في تحويلها إلى رسالة إعلامية؟
وهل عدد الأشخاص في حال كون الرسالة بين اثنين فقط، لا تتجاوز أن تكون رسالة شخصية، عدد المستقبلين هل له دور في تحويل الرسالة من مجرد رسالة إلى تحويلها إلى رسالة إعلامية؟
هذه الأسئلة كانت مثار نقاش بيني وبين متدربين كثر، ولكوني أؤمن أن التدريب هو نشاط تفاعلي في الأساس كان ينبغي أن نصل إلى نتيجة مع المتدربين في الإجابة عن هذه الأسئلة، ووجدنا أن الرسالة إذا كانت بين شخصين فقط لا تتجاوز أن تكون رسالة إعلامية، بينما كلما زاد عدد المستقبلين للرسالة كلما تحولت إلى رسالة إعلامية، أو إعلام.
وهذا الجدل في كل الأحوال ربما يكون جدلاً فلسفياً، لكنه يقترب من الواقع، لأن طبيعية الرسالة الإعلامية يجب أن ترسل إلى أكثر من شخص، ومع ذلك فسوف يظهر لنا سؤال جديد، وهو:
هل عندما أرسل رسالة نصية، أو رسالة واتساب في قروب لعدة أشخاص الذين يصل عددهم اليوم في القروب الواحد إلى 260 شخصاً، هل مثل هذه الرسالة تمثل رسالة إعلامية، أو تظل في نطاق الرسائل الشخصية أو الفردية، هل المحتوى له دور في هذا الجانب، هل الأدلجة هي الأخرى تظهر في الإجابة عن مثل هذا السؤال؟
هو سؤال، وسوف يظل من الأسئلة المحورية التي نحتاج إلى مزيد من النقاش وتحتاج إلى مزيد من الجدل.
وحتى نعود إلى ما بدأناه من تسلسل وتراكم حصل في التطور الإعلامي من خلال ظهور التقنية الحديثة، ووسائل التواصل الجديدة، فإنه بظهور وسائل التواصل الاجتماعي «السوشل ميديا» وقبلها ظهور محرك البحث العظيم «قوقل» ثم ظهور اليوتيوب، هذه جميعها أحدثت ثورة على مستوى التواصل بين البشر في العالم قاطبة، وساهمت في تقريب المسافات، وتحويل الكون إلى غرفة -وليس مجرد قرية كونية- واحدة.
وفي هذا السياق، يجدر الحديث عن التغير الشامل الذي شهده الإعلام في ظل هذا المد الكبير من التطبيقات التي تظهر كل يوم، وفي ظل وجود المنصات المتعددة التي أشهرها على وجه الإطلاق التويتر، والسناب شات، والانستقرام، والفيسبوك وغيرها.
ما الذي حدث للإعلام بالضبط، في ظل هذه النقلة؟
هذا السؤال يذكرني بعملي الصحفي الذين الذي قضيت فيه أكثر من 15 عاماً متفرغاً، قبل أن أنتقل للعمل في الإعلام المرئي.
عندما كنت أعمل في الصحافة الورقية كانت على المستوى الإعلامي هي الأهم والأبرز، إلى جانب الإعلام المرئي الذي كان أمام الصحافة أقل قدراً بحكم انحصاره، وعدم قدرته في ذلك الوقت على تقديم طرح جريء يمس قضايا الناس بشكل مباشر كما حدث فيما بعد.
الصحافة الورقية اليوم غيرها بالأمس، يلمسه الجميع، فلم يعد هناك من يقرأ أو يتابع هذه الصحف بنفس العدد الذي كانت عليه، وهذا الأمر أدى إلى تراجع إقبال المعلنين من رجال الأعمال وأصحاب الشركات على الإعلان في الصحف، ولكونها مؤسسات تجارية -قطاع خاص- فإنها تعاني اليوم شح الدخل المادي، مما أدى إلى قيامها بتسريح أعداد كبيرة من العاملين والموظفين بها، وبدأت تقلص نشاطاتها السابقة التي كانت تتوسع بها في يوم من الأيام، يعني أن السوشل ميديا والإعلام الجديد أو البديل ضرب الصحافة التقليدية في مقتل، وهناك من كان يطرح أو يتصور أن الصحافة الإلكترونية يمكن أن تكون بديلاً للصحافة الورقية، في ظني أن هذا الاعتقاد يحتاج إلى المراجعة والنقاش بشكل كبير، حيث إن الصحافة الإلكترونية هي الأخرى لم تتمكن من الصمود أمام زحف السوشل ميديا، حتى أنها ولكثرتها لم تتمكن من تحقيق أعداد من المتابعين، ربما هي صحف قليلة جداً وتعد على أصابع اليد تلك التي تمكنت من عمل حضور لدى المتابعين، في ظل ظهورها في زمن معين -أقصد به قبل ظهور السوشل ميديا- وفي ظروف معينة -وأعني أنها تمكنت في تلك الفترة من تنفيذ خبطات صحفية قوية- والحديث هنا عن الصحافة السعودية تحديداً - تلك الخبطات مكنتها من تكوين رصيد جديد من المتابعين، ومن الحصول على سمعة جيدة، لكنها على كل حال مهما كانت، ومهما اجتهد العاملون فيها من جهود فإنهم لن يتمكنوا من تحقيق دخل إعلاني قوي لو قارناه بما كانت تحققه الصحف الورقية في السابق.
الوضع مختلف على كل حال، الاختلاف جذري وكبير، لأن الظروف الإلكترونية تختلف كلياً عن الصحافة الورقية التقليدية، تلك عقلية، وهذه عقلية أخرى، وذلك تعاطٍ من قبل القراء، وهذا تعاطٍ آخر من قبل المتابعين.
هناك كنا نقول قراء، واليوم نقول متابعين، هذه فروق مهمة وجوهرية فيما يخص طريقة التفكير، وطريقة التعاطي، ينعكس أيضاً على طريقة الطرح، والتناول، حيث يمثل التفاعل محوراً أساسياً في الطرح الإعلامي الجديد، وتمثل الرسالة الراجعة أو التغذية أو الفيدباك أمراً أساسياً فيما يقدم، نجد أن المستقبل للرسالة بات شريكاً في صناعة الرسالة الإعلامية، وبات قادراً اليوم على أن يكون إعلامياً كل من يقرر أو يرغب في تقديم ما لديه للجماهير في أي وقت كان، ومن أي مكان في العالم، ودون قيد أو شرط، يعني أن القيود الرقابية قد زالت، والجهات التي كانت تحتكر الإعلام لم تعد كذلك، واليوم قد يؤثر في الرأي العام سياسية كانت أو اقتصادية أو خدماتية شخص عادي، أو هامشي، أو مغمور، وليس لها علاقة أيضاً بمستواه الثقافي أو مستواه التعليمي أو خلاف ذلك، كنا في الصحافة الورقية نشترط وجود الموهبة الصحفية والشغف للعمل والقدرة على الكتابة أو تحرير الأخبار على الأقل، اليوم كل ذلك انهار، فقد يكون من المؤثرين أو نجوم السوشل ميديا عبر السناب شات مثل شخص قليل التعليم، قليل الثقافة، ليس لديه أي إمكانات، فقط كل إمكاناته تتلخص في ضربة حظ، حظي بها في وقت من الأوقات وبرز بمقطع حقق انتشاراً، ثم أصبح من المؤثرين أو المشاهير، فلم يعد هناك معايير محددة، أو شروط أو ضوابط، كنت قد كتبت مقالاً عن ظاهرة أبوسن وسفاح القطط في صحيفة عاجل الإلكترونية، وأظنه ليس هناك اليوم من لا يعرف من هو أبوسن، ثم ظهر بعده صاحب أغنية صامولي النجم صغير السن «دايلر» الذي أصبح في يوم وليلة أصغر مليونير سعودي.
هذه الأحداث التي خلقتها التقنية ووجود السوشل ميديا هي التي أطاحت بكل المعايير، وضربت كل القواعد الإعلامية القديمة في مقتل، لم يعد هناك قواعد ثابتة يمكن لها أن تحكم العمل الإعلامي، وفي الأساس لم يعد هناك -أصلاً- عمل إعلامي يمكن له أن يحكم، التغير بات سنة كونية، لكنها في الفترة الأخيرة باتت سريعة جداً وجداً، وخلال دقائق يمكن أن تختلف كل المعايير، وتظهر تطبيقات جديدة ربما تضرب كل التطبيقات السابقة، وتهدمها، أو تلغيها، أو تعيد بناءها من جديد، والتنافس قائم ومحموم في هذا الاتجاه، وهو يدعونا فعلاً كباحثين ومراقبين أن نتأمل وندرس مثل هذه الظواهر، وأن نساهم في إعادة بناء أفكارنا، وأفكار الآخرين بناء جديداً يساهم بشكل فاعل في التجدد والتحديث المستمر الذي نحتاج إليه دائماً، وأن نسهم في حث أبنائنا أن يكونوا أكثر قدرة على المساهمة في «صناعة المعرفة» التي تعتبر عنواناً مهماً لهذا العصر الذي نعيشه، أيضاً نحلم أن نصل إلى «تصدير المعرفة» فهل سيأتينا مثل هذا اليوم ونحن لا نزال شعوباً استهلاكية بحتة؟