محمد آل الشيخ
مَن يعرف ثوابت المملكة منذ عبدالعزيز حتى سلمان بن عبدالعزيز لم تُفاجئه الأحكام الشرعية التي صدرت الاثنين الماضي بشأن قضية الكاتب جمال خاشقجي -رحمه الله-؛ فقد كنتُ متيقنًا بأن الأحكام الشرعية ستأتي بالشكل الذي صدرت به، رغم أن هذه القضية، ولغايات في أنفس البعض، قد رافقها من الضغوط والمناورات، بل الأقاويل والإشاعات، وقبل كل ذلك (التسييس)، ما قد يحرفها عن العدالة، وتحرِّي الأمانة، ويذهب بها إلى متاهات السياسة، وحساباتها التي تكتنفها غايات مغرضة أخرى، تحيد بها إلى الرضوخ للضغوط.. غير أن القضاء في المملكة، فعلاً لا قولاً، أخذ بهذه القضية بمهنية صارمة إلى شاطئ الأمان والعدالة؛ فحكم بقتل مَن توافرت الأدلة والوقائع بأنه يستحق هذه العقوبة، وعُوقب بالسجن آخرون، كما بُرِّئ مَن أثبتت الأدلة أن لا علاقة له بالجريمة، وطُويت صفحة كلَّفت كثيرًا من الانتهازيين الصغار والكبار الكثير والكثير جدًّا من الأموال، وذهبت أموالهم، ومعها ملايينهم، تذروها الرياح بلا أية قيمة ولا مردود، وعادوا من مساعيهم بخفَّي حُنين، وبقيت مملكة عبدالعزيز كالطود شامخة راسخة، وكانوا -ومعهم بعض أذيالهم- يظنون أنهم قد أصابونا في مقتل، وأننا أقل من الصمود في وجه زوابعهم التي توالت بسبب هذه الجريمة من كل حدب وصوب، إلا أن مَن يملك تاريخًا ضاربًا في الأعماق لن تضره زوبعات مفبركة، ومؤامرات قذرة. وهذا ما انتهت إليه أخيرًا هذه القضية، بصدور هذه الأحكام الرصينة والمتزنة، التي وضعت النقاط على الحروف، دون أن يكون للمغرضين (الصغار) والكبار أي تأثير على هذه القضية.
المملكة يا سادة ليست (دويلة) محدثة، وليست محمية من المحميات، تتكئ على قوات تحتلها لتحميها من الخارج، كتلك الدويلات المفبركة التي لم يكن لها قط ذكر في الماضي ولا الحاضر، أنشأها المستعمر، ودافعت - ولا تزال تدافع - عنها بوارجه، بل هي دولة ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، بناها أبناؤها بأنفسهم، وسيوفهم، وقناعاتهم، وأراقوا من أجلها دماءهم قبل أن يكون فيها ثروات ومطامع. أسقطها الغزاة أول مرة، وحاولوا مسحها من على الأرض، لكنها بقيت في قلوب أهلها راسخة، شامخة، قوية، متماسكة؛ فعادوا وشيدوها للمرة الثانية، ثم سقطت لأسباب داخلية، وكان للغزاة دورٌ في التآمر عليها، ثم أقامها رجل لم يَجُد به التاريخ إلا لمامًا، إنه المؤسس العظيم الملك عبدالعزيز، واضعًا نصب عينيه (أن العدل أساس الملك)، وجعله مبدأ لا يحيد عنه، ولا يساوم عليه، حتى وإن كان الجاني واحدًا من أبنائه أو أقرب المقربين إليه. وهناك من القصص والشواهد التاريخية الكثير مما لا يستوعبه مقال في جريدة.
لذلك فما صدر من أحكام عادلة في قضية خاشقجي، جرى تحريها بعين العدل والإنصاف، هو امتداد لمبادئ تأسست عليها هذه الدولة منذ بداياتها، واتكأت عليها قواعد أساساتها، وليس ثمة جديد.
ولعل خير من يلقم المناوئين والمزايدين تغريدة سطّرها ابن الفقيد في تويتر، الأستاذ صلاح جمال خاشقجي، قال فيها بوضوح ومباشرة، وبلا أية مواربة: «إنصاف القضاء يقوم على مبدأين: العدالة وسرعة التقاضي؛ فلا ظلم ولا مماطلة. اليوم القضاء أنصفنا نحن أبناء المرحوم - بإذن الله - جمال خاشقجي. ونؤكد ثقتنا بالقضاء السعودي بمستوياته كافة، وقيامه بإنصافنا، وتحقيق العدالة. الحمد لله، والشكر له».
وبهذه التغريدة طُويت صفحة هذه القضية إلى الأبد.
إلى اللقاء