الإعراض عن المشاهد الخادشة للحياء، أحد القوانين التربوية التي تلقيناها منذ نعومة أظفارنا في جو أسري يمنح الحرية المتزامنة مع الثقة. وعلى الرغم من زمن الرقابة الإعلامية الصحية، إلا أنه بقى هذا المشهد المفاجئ والصادم للطفولة قابعاً في ذاكرتي، وإن لم أعي أو أفهم شيئاً من أحداث الفيلم سوى التعاطف مع طفلة شقراء، بأسنان أمامية متفرقة، ووجه عبث فيه النمش (جودي فاوستر) تحاول جاهدة التكيف مع ذراعين كريهتين، التفت حولها بمخالب طويلة ذا طلاء أحمر!. إلى هنا ولم أكمل متابعة الفيلم.
وعي المشاهد وذكائه وحساسيته تجاه المغزى من قصة الفيلم المعروض، أحد أسباب تصدر فيلم السبعينات (سائق التاكسي) للمخرج مارتن سكورسيزي الواجهة فضلاً عن التكنيكات الكثيرة، وفنيات التلاعب العبقرية بزاويا اللقطات وزووم العدسات، واختيار الممثل ذي العينين الحمراويتين الحادتين (روبيرت دي نيرو).
ضبابية الألوان وانعكاسات أضواء شوارع وأزقة وأنفاق نيويورك القديمة التي تضج بقذارة حسية تبعث في نفس المشاهد شعوراً بالاشمئزاز والنفور مماثلاً لإحساس سائق التاكسي وهو يتجول متململاً، بسيارة الأجرة ليلاً.
نجح ببراعة في تجسيد دور شخصية رمزية غاضبة بعد خروجها خاسرة من حرب مستنزفة لا هدف مفهوم من ورائها، عاد منهكاً، مثقلاً، فارغاً، يبحث عن وسيلة عاجلة للخروج من مأزقه هذا، يجد أن العمل المتاح له هو عمله الليلي كسائق تاكسي.
أمامه طريقان للتنفيس عن حالة الغضب المحموم بداخله، والذي زاده استعاراً إحساسه القاتل بالوحدة وبفقدانه المعنى من حياته، فأيامه متشابهة تخلو من الإثارة والمعنى، لم يجد بداً سوى سلوك أحد طريقين إما الانغماس في عالم الرذيلة المشاع والمتاح، وإما الولوغ في جرائم القتل غير المشروع وغير المبرر!
ولكونه يحمل في ذاكرته بقايا ادعاءات من قيم لم ينجح في التأقلم مع المدينة التي تعج بالفساد، عبر عن ذلك بأمنية «بأن يهطل المطر يوماً ما ويجرف معه الحثالة عن الطرقات»، ولم تنجح جعات البيرة على تغييبه ومساعدته في الاندماج.
لم يلفت انتباهه من بين سيل الأجساد الرخيصة حوله سوى شابة ترتدي فستاناً أبيض اللون، أشعره بعفتها وببياض ماضيها، فهي مختلفة عن سائر من يراهن، مثقفة، مستقلة، ذات عينين جميلتين، تنتمي إلى طبقة راقية، إلا أن مراقبته لها ومحاولاته المستمرة في التقرب منها والتودد إليها، نجحت إلى حد ما في بداياتها، ولكن اعتدادها بنفسها، عفتها، وفطنتها حمتها من محاولته لغوايتها، وبعد أن باءت محاولاته للاعتذار والعودة إليها بالفشل. تضاعف لديه الإحساس بالخيبة والغضب، عبر عنه بعبارة تمثل عالمه الداخلي المهووس «أنتِ في الجحيم وستموتين هناك كالآخرين»!.
قاده جنونه الشخصي، وبمحض اختياره إلى طريق آخر بقصد فرض التحكم والسيطرة وهو الشروع في القتل، ولكن الشخصية المستهدفة لم تكن عادية بل كانت مرشحة لرئاسة أمريكا، إلا أن محاولته هذه أيضاَ لم تنجح.
تبدو للوهلة الأولى أن أحداث الفيلم رتيبة وتبعث الشعور بالملل في نفس المشاهد، فهي أحداث ليست جاذبة أو ماتعة، وتخص بطل الفيلم وحده، ولكن المتأمل، عميق النظرة، يدرك أن الفيلم يجسد التركيبة بالغة التعقيد والموغلة في التناقض، أبعاد الفيلم ورمزياته والمعاني الخفية والإشارات الوامضة التي يلتقطها اللاواعي، سواء أكان ذلك في لون الجاكيت الذي يرتديه البطل في أول مشهد له، أو في رده المجنون حين رفضت الفتاة الراقية العفيفة محاولاته للاعتذار، أو في نظراته العنصرية للسود، أو كان في الحركة الضمنية للمرشح للرئاسة الأمريكي وهو يلقي خطابه، أو في ابتسامة الرضا التي علت محيا البطل وهو يوشك أن يودع الحياة وكأنه يعبر عن ارتياحه عن المعنى البطولي المفتعل الذي قام به بعد أن حقق هدفا ذا معنى وقيمة، حين طهر الحي من رؤوس القذارة فيها. ولا ندري هل هو طهر الحي أم طهر نفسه من رذائل سابقة!
الفيلم يشي إلى أن وسائل التنفيس عن الإحباط والتأنيب، وحالة الغضب تدفع بالنفس البشرية إلى ادعاءات متناقضة، وممارسات شاذة، وسلوكيات حمقاء لا يمارسها فقط من يخرج من الدهاليز المظلمة والأزقة الضيقة للطبقة الاجتماعية الفقيرة لأعرق مدينة في نظر كثير من العالم المتحضر اليوم إنها مدينة نيويورك.
أنصح بالاحتراز عند مشاهدة الفيلم.